- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
البارزاني وتقرير المصير: كلمة حق أريد بها باطل!
جلبير الأشقر
لا شك في أن الأمة الكردية تشكّل هي والجناح المشرقي للأمة العربية الضحيتين الرئيسيتين للتقاسم الاستعماري الأوروبي/التركي لتركة الإمبراطورية العثمانية. فحيث كانت الأمتان مضطهَدتين في إطار الإمبراطورية تخضعان لحكمٍ عثماني شهد تتريكاً متصاعداً خلال القرن التاسع عشر بما انعكس تصاعداً في الاضطهاد العثماني/التركي للقوميات غير التركية، أدّى انهيار الإمبراطورية إلى تقسيم أراضي القوميتين العربية والكردية التي كانت واقعة تحت سيطرة الباب العالي.
إلا أن مصيبة الكرد كانت أعظم من مصيبة العرب: فحيث جرى تقسيم المشرق العربي إلى ثلات دول هي العراق وسوريا (التي اشتُقّ منها لبنان ولواء إسكندرون تحت الانتداب الفرنسي) وفلسطين (التي تقاسمت أراضيها المملكة الهاشمية والحركة الصهيونية في ظل الانتداب البريطاني)، ونتجت عن ذلك أربع دول عربية ذات سيادة قانونية (وأراض محتلة في فلسطين وإسكندرون)، فقد جرى ضمّ كافة الأراضي الكردية بصفة مناطق أقليات بلا سيادة في كل من تركيا والعراق وسوريا.
والحال أن الأمة الكردية في كل من المناطق الثلاث (ناهيكم من أرض كردستان الواقعة ضمن حدود الدولة الإيرانية) عانت من شتى أنواع الاضطهاد من قِبَل حكومات التعصّب القومي في أنقرة وبغداد ودمشق وتعرّضت لسياسات التتريك الكمالية والتعريب البعثية، لا يضاهيها في المعاناة إقليمياً سوى الشعب الفلسطيني. ومن مفارقات التعصّب القومي العربي أنه كان ينادي بوحدة الأمة العربية وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وينكر على الأمة الكردية حق كل جزء من أجزائها في تقرير مصيره وحقها في التوحّد القومي، بل حتى حقها البسيط في الوجود. ولا معالجة ديمقراطية للمسألة القومية في منطقتنا سوى بتحقيق حق الأمة الكردية بكافة أجزائها في تقرير المصير، بما فيه الانفصال والتوحّد، حيث تشكل أكثرية سكانية، على أن يتم إيجاد حل حضاري ديمقراطي توافقي للأراضي المتنازع عليها التي شهدت تغييرات سكانية بنتيجة التخطيط القومي الاضطهادي.
غير أن قرار مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، إجراء استفتاء على استقلال الإقليم يوم الإثنين القادم لا يمت بأي صلة إلى الأفق الديمقراطي الموصوف أعلاه.
والحقيقة أن كردستان العراق قد تمتّعت منذ ما يزيد عن ربع قرن باستقلال يفوق بالتأكيد استقلال الدولة العراقية، كما تمتّعت معظم هذا الوقت بظروف من الأمن والرفاهية تميّزت بحدّة عن المأساة بلا نهاية التي عانت منها مناطق العراق العربية. فبعد الحرب الأمريكية الأولى المدمِّرة على نظام صدّام حسين سنة 1991 وبعد أن كانت واشنطن قد أتاحت لهذا الأخير قمع الانتفاضتين الناشبتين في جنوب العراق وشماله، مما أحدث موجة كبيرة من لجوء الكرد العراقيين إلى كردستان تركيا مثيرةً قلق أنقرة وكذلك قلق عواصم أوروبا الغربية من فتح تركيا أبوابها لانتقال اللاجئين إلى دولها (مثلما حصل لاحقاً مع اللاجئين السوريين)، قرّرت الولايات المتحدة تأمين الحماية لكردستان العراق وفرض حظر جوّي فوق أراضيها.
وكانت النتيجة أن كردستان العراق، وبعد مخاض عسير ودموي، استقرت على نظام توافقي بين جناحي الحركة الكردية العراقية أتاح للإقليم أن ينعم بازدهار اقتصادي نجم بشكل رئيسي عن وساطته التجارية بين نظام صدّام حسين (لا بل عائلة صدّام حسين!) وتركيا. وبكلام آخر فإن كردستان العراق كان المستفيد الأكبر من الحظر المجرم الذي فرضته واشنطن على العراق والذي عانى منه الشعب العراقي ولم يعانِ منه قط الطاغية صدّام حسين وأقاربه.
وعند احتلال العراق واستكمال تدميره من قبل الولايات المتحدة وحلفائها كانت كردستان العراق بمثابة جنّة مقارنة بالجحيم الذي ساد في مناطق العراق العربية، فضلاً عن تمتّع كرد العراق بقوة عسكرية تفوق ما تبقّى لدى الدولة العراقية في ظل الحراب الأمريكية. فكرّست التطورات الدستورية والعملية استقلال «إقليم كردستان العراق» الفعلي بينما كان سائر العراق يقبع تحت الاحتلال الأمريكي ومن ثم تحت الهيمنة الإيرانية، أي أن الحكم الذاتي الذي تمتّع به الإقليم كان استقلالاً فعلياً بما في ذلك الجيش والعلَم، لا ينقصه لكي يكون كاملاً سوى اعتراف دولي و قطيعة اقتصادية رسمية مع الدولة العراقية.
وحيث أن كردستان العراق واقعة على تخوم دولتين مضطهِدتين للأمة الكردية، ألا وهما تركيا وإيران، وليس لديها منفذ خاص بها إلى أي بحر، اقتضت مصلحة كرد العراق أن يستمر الإقليم ببناء ذاته مستفيداً من وضعه الخاص حتى تتسنّى ظروف تاريخية تسمح بتسوية ديمقراطية شاملة كالتي تم وصفها أعلاه. بيد أن مصلحة كرد العراق ليست ما يعمل مسعود البارزاني بوحي منه، بل لا يحرّكه سوى مصلحة نظام الفساد والمحسوبية الريعي الذي أرساه في الإقليم على حساب شعبه وعلى الطراز المعهود لدى الحكام العرب. لا بل يجازف البارزاني اليوم بكل ما تيسّر لكردستان العراق خلال العقدين الأخيرين إذ يتشبّث حتى الآن بإجراء استفتاء ترفضه بغداد ويرفضه حتى أصدقاؤه في واشنطن وأنقرة.
كل هذا أدركه المتنوّرون من سكان الإقليم الذين عارضوا الاستفتاء وندّدوا بسلوك البارزاني الذي يعرّض كردستان العراق لأوخم العواقب بغية تحقيق مطامعه الأنانية الضيقة. لقد أدركوا أن تحجج البارزاني بحق تقرير المصير إنما هو مثال ساطع عن ذلك السلوك الذي وصفه الإمام علي بن أبي طالب بعبارة خالدة: «كلمة حق أريد بها باطل».
أقرأ ايضاً
- التأهيل اللاحق لمدمني المخدرات
- دور الذكاء الاصطناعي في إجراءات التحقيق الجزائي
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!