- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
كارثة خسارة المنارة الحدباء وجامع النوري... بين إفراط المتمنطقين.. وتفريط الغافلين.. ووسطية المرجعية الدينية العليا.. دروس وخفايا
بقلم: جسام محمد السعيدي
"إنّ الجيش العراقي والإخوة المتطوّعين إنّما يدافعون عن بلدهم العزيز، هذا البلد الحضاريّ بل الذي تجذّرت فيه مجموعةُ حضارات، هذا البلد الذي سيكون كما كان منيعاً عن أيّ محاولة لتغيير هويّته وتبديل تراثه وتزييف تاريخه".
بهذه العبارات الواثقة من عمق تأريخ العراق، والحذِرة من محاولات تغيير هويته وتزييف تأريخه، صدح المرجع الديني الأعلى بخطبة الجمعة التي ألقاها عنه العلامة السيد أحمد الصافي في صلاة الجمعة (21جمادى الأولى 1436هـ) الموافق لـ(13آذار 2015م) والتي أقيمت في الصحن الحسينيّ الشريف.
مخاوف المرجعية بشأن محاولات تغيير الهوية العراقية كثيرة، ليست الدينية فقط كما يعتقد البعض، وان كانت أهمها.
وقد استعرضنا الكثير منها في تحليلات سابقة، ولم نتطرق إلى تغيير الهوية من خلال تهديم الآثار والتراث وسرقته، لعدم مناسبة ذلك في وقت سابق، ولكن كارثة تدمير المنارة الحدباء وجامع النوري في الموصل المحزنة، دعاني لاستعراض هذا الأمر رداً على بعض الصفحات العلمانية والإسلامية التي تفاوتت ردة فعلها بين الإفراط والتفريط، المؤسفين، وبتطرفٍ يكشف عن عمق مأساتنا الثقافية.
علينا أن نعرف الأمور العلمية التالية، قبل إعطاء رأينا فيما حصل من كارثة، والتي أكتبها من وحي تخصصي في البحث الاجتماعي، وهي خلاصة سنوات من الأبحاث:
1. حتى تغير ثقافة شعب أو تفكيره من الاتجاه الصحيح، الى الاتجاه الخاطئ، عليك أن تفعل الأمور التالية:
A. إهدم آثاره وتراثه، من مبانٍ وشواخص تأريخية، وكل ما يربطه بماضيه المشرق.
B. غير نصوص تأريخه، ودلّس المعلومات المغلوطة ليراها الآخر صحيحة!!
C. غير لغته، أو على الأقل بسّط وسخـف استخدامها والتعامل بها.
D. سطّح أفكاره، وسخـّفها قدر المستطاع، سواء كانت أفكار دينه السماوي، أو تقاليده الجيدة غير المتعارضة مع ذلك الدين.
E. سقـّط رموزه ومرجعياته الدينية والفكرية.
F. استخدم مسميات غريبة عن تأريخه وحضارته في تسمية شوارعه ومنشآته ومؤسساته.
2. إن قمت بالخطوة الأولى فقد وصلت إلى أهم خطوة، لأن ذاكرته قد مُسحت أو تكاد، وهي مهيأة لتكتب عليها ما تريد، وصار بيدك رسم هويته كيفما تشاء، وهنا يمكنك أن تشكل ما تريده، قيم وتقاليد ومفاهيم جديدة، وهلم جرا.
3. أن رسمت الهوية التي تريدها للشعب المستهدف، فقد وصلت إلى الخطوة النهائية، وهي تبعية ذلك الشعب لك، بل وصيرورته جزءً منك، فلك ان تلغيه من الوجود ككيان حضاري، فلا يبقى منه إلا الاسم، ولك أن تبقيه خادماً طائعاً منفذاً لرغباتك باسمه، من خلال الهجرة لبلدانك أو خدمتك وهو في بلده!!!
وذلك بسبب انهيار اعتزازه بنفسه، وبالتالي انهيار عزيمته على التطور، إذ لا رمز يفتخر به، ولا قيم صنعها هو، بل هو بالكاد متلقٍ من غيره تابع له!!! ولا يخرج من هذه القاعدة إلا ما رحم ربي.
فيلجأ إلى غيره طالباً الانتماء، فيصبح أبناء سومر وأكد وآشور، أحفاد أنبياء الله وأوليائه نوح وإبراهيم وهود وصالح ويونس ويوسف ويعقوب واسحاق وناحوم وجرجيس وذو الكفل وغيرهم من أنبياء العراق عليهم السلام، يصبحون:
كيان الساعدي!!! أوس الألماني!!! عمار الهولندي!!! غيث الريالي!!! علي الإيراني!!! عمر التركي!!! أحمد البرشلوني!!!.
تلك هي الفوائد التي أرادت عصابات داعش جنيها من تهديم آثار مرقد رمز نينوى، مرقد نبي الله يونس، ومرقد نبي الله شيت النبي الوحيد على كوبنا الذي ينتمي لنبي الله آدم وأمنا السيدة حواء، ومرقد نبي الله جرجيس عليهم السلام جميعاً، وآثار مدينة الحضر والنمرود وبوابة نرگال، وأخيراً للأسف الجامع النوري والمنارة الحدباء.
تهديم كل ذلك يعني:
أ- محو الذاكرة الحضارية والدينية التي ميزت الشعب العراقي عن باقي الشعوب، والتمهيد لإحلال غيرها بدلها لا سمح الله، سواء أكانت هوية غير إسلامية، او إسلامية متطرفة مشوهة عن الدين الحقيقي، أو غير عراقية، أو غير عربية، ويختص المحو بالعراقيين عموماً، وبأهل الموصل بشكل خاص، فالمنارة رمزها وتتلقب بها، ويكفي بضعة عقود لإنهاء اللقب وربما جزءً من الهوية!!.
ب- تهديم جزئي للشخصية العراقية، لأن شخصية أي مواطن في أي بلد تـُبنى من خلال التراكم الحضاري والتأريخي والفكري لأبنائه، وتـُعزز بشواهد الرموز المادية والروحية لذلك البلد، التي تبني الشخصية، وبالتالي فتهديمها يعني افراغ الذاكرة منها، وبالتالي النفس منها، خاصة للأجيال القادمة التي لم ترها، والسماح لغيرها من الرموز الوهمية بالنفوذ للنفس.
وعلينا تصور ما هو الأثر السلبي الذي سيحصل من ذلك، خاصة مع عدم وجود رموز حديثة أوجدتها الحكومات السابقة او الحالية، رغم أنها لا تعوض عن تلك الأصيلة ذات العمق التأريخي الذي يصنع شخصية عميقة غير سطحية، والتي يُخاف عليها من الزوال.
وربما إلى ذلك أشار المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني في خطبته أعلاه بقوله:
"وأودّ أن أؤكّد مرةً أخرى على ضرورة حفظ هذا التاريخ الناصع من خلال التوثيق لكلّ جزئيات الأحداث خوفاً من التضييع أو التبديل".
ج- ذلك سيؤدي لعدم إبقاء ما يحقق انتماء فعلي للبلد، فالإنسان بطبعه يميل للاعتزاز بالمكان الذي يمتلئ بما يفخر به، لا بأكوام النفايات والشوارع غير المبلطة والفساد الإداري!!!.
ولذا نرى البلدان الحديثة النشوء الخالية من الرموز التأريخية، تسعى لبناء رموز تحقق الاعتزاز بالبلد لدى المواطنين، كما فعلت دول الخليج، التي لم يكن أغلب سكانها يفخرون بالانتماء لها حتى مطلع الثمانينات، وهم الآن من أشد ما يكون لها انتماءً، بل ويسعى البعض من أبنائنا للانتماء لها بعد أن فقدوا الرموز الحديثة في بلدانهم، ولم تعد متوازنة مع عظمة الرموز القديمة، فما هو الحال وقد بدأنا نفقد الرموز القديمة من خلال الغاء وزارة السياحة والآثار في أقدم بلدان العالم وأكثرها آثاراً، ومن خلال تهديم يومي للدور
التراثية في كل المدن، فضلاً عما فعلته داعش من تهديم ومحو.
هذه قواعد علمية عامة من وحي علمي النفس والاجتماع، ولو أخذنا العراق في مثالنا الحالي، فسنرى ان الشخصية العراقية تعتز بتلك الرموز ولا يوجد ما تعتز به غيرها، بعدما قصرت حكوماتنا الحديثة عن إيجاد رموز حديثة تعزز الانتماء لهذا البلد، وتزيد من أثر الرموز القديمة التي كان حرياً بها المحافظة عليها، وبالتالي فآثار ذلك على النفس والمجتمع كبيرة للأسف، ما لم يتم التدارك وإعادة إعمارها بعد التحرير بنفس المواد وتحت اشراف مختصين ولو بالاستعانة بمنظمة اليونسكو العالمية، وكذلك التسريع بإيجاد قوانين تحمي التراث والاثار.
د- القضاء على الفرص السياحية للنهوض باقتصاد المدينة، فلا أبراج وناطحات سحاب ومدن مائية وجزر صناعية نفتخر بها ببركة حكوماتنا، وليس لدينا غير تلك الرموز السياحية التي لا تعوضها أي رمز حديث.
أقول:
على الجميع استنكار آخر جريمة لداعش حول تهديم المنارة والجامع الذي يعود تاريخه إلى العهد الزنكي في زمن الإمبراطورية العباسية في عهد المستضيء بأمر الله العباسي، وتحديداً إلى فترة تولي سيف الدين غازي الثاني بن مودود زمام الحكم في الموصل، والذي بناه نور الدين زنگي سنة 566 هـ وانتهى منه سنة 568 هـ.
وعلى الذين أسرفوا في الاستنكار وحملوا وزره على الدين، ما لم يكن له فيه يد، عليهم أن يعودا إلى رشدهم إن كانوا صادقين، وليعلموا أن المبالغة في مثل هذه الأمور تكشف عن عدم صدق توجههم، وعدم جديتهم في الاستنكار فعلاً بقدر كرههم للدين ومحاولة الصاق التهم به، رغم ان داعش بعيدة عن الإسلام فعلاً، وهم قد يعلمون ذلك، ولا يُعذر الجاهل منهم ان لم يكن يعلم.
كما إن على الذين سفهوا الاستنكار واعتبروا ان المنارة والجامع لا قيمة لها، وهي لا تساوي جرح شهيد فضلاً عن حياته!! أو أن من بناها سيء!!
فليعلموا أنهم يُعطون الفرصة على طبقٍ من ذهب للصنف الأول للتنكيل بالدين، كما أنهم - من حيث لا يشعرون - يضيعون دم الشهداء الذين سقطوا خلال الأشهر الماضية من أجل تحرير المدينة، فهذا الجامع وتلك المنارة الشهيدة، كانت السبب في تأخير التحرير، حفاظاً عليها، وقد استشهد أعزائنا لتتحرر وتبقى لا لكي تتحرر وتهدم.
فقد كان بالإمكان استخدام السلاح الثقيل لقصفها والجامع وانهاء الأمر منذ أشهر، وكان بالإمكان استخدام السلام الكيمياوي لقتل الإرهابيين المتحصنين فيها، ولكن سيؤدي لقتل الأبرياء أيضاً.
كل ذلك كان ممكنا لو أردنا المحافظة على الآثار وانهاء الامر ايضاً، ولم نفعل كلا الأمرين لأن ديننا أمرنا بعدم فعله.
إنكم إخوتي بتسفيهكم لأمر تهديم هذه الآثار تضيعون دماء الشهداء، وتدخلون الحزن على أرواحهم الطاهرة، وتسفهون تضحياتهم من حيث لا تشعرون!!!
أنكم تخالفون المرجعية التي دعت في الفتوى إلى الدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات، أفليست المنارة والجامع من تلك المقدسات، بغض النظر عن بانيها؟!!
ألم تعلموا أن المرجعية الدينية العليا قد قالت في خطبتها أعلاه ما نصه:
"لقد أُريقت ولا تزال على هذه الأرض الطاهرة دماءٌ زكيةٌ وغاليةٌ علينا جميعاً، دفاعاً عن كرامتنا وعزّتنا ومقدّساتنا وهويّتنا الثقافية التي نعتزّ بها ولا نرضى بها بدلاً".
أليست المنارة التاريخية والجامع النوري الذي يعود لحوالي 9 قرون خلت، جزءً من هويتنا الثقافية، التي أريقت من أجلها تلك الدماء الطاهرة دفاعاً عنها، وليس تشفياً بتهديمها؟!!!
فما لكم كيف تحكمون؟!!
عن نفسي:
بالإضافة لأمريكا التي جاءت بداعش، ومن خلفها الكيان الصهيوني، فلا أُبرّأ أي جهة وقفت خلف داعش لتهديم هذه الرموز، وأولها تركيا التي تريد افراغ كل ما يمت للعراق بصلة في هذه المدينة العراقية دماً ولحماً، والتي تريد ابتلاعها كما ابتلعت قبل قرن 7 محافظات عراقية هي ماردين وديار بكر وهكار وكالات وشرناق وسعرد واورفه (العراقية السورية).
ولا أبرّأ دولة الامارات العربية المتحدة التي بنت رموزاً حديثة في مدنها كي توازن ما لدى البلدان القديمة، كالعراق وسوريا ومصر، لذا فقد ساهمت في تهديم آثار تلك الدول من خلال تمويل وربما توجيه داعش، كي لا يشكل عودة الحياة لها بعد طرد داعش أي فائدة، إذ ستكون –مع إفقاد رموزها التأريخية التي تميزها عن مدن الامارات- أقل شأناً من مدن الامارات، بل ستكون الأخيرة هي الأفضل!! لأنها تمتلك رموزا لا تمتلكها الموصل وحلب والرقة الخ!!!!
فتأملوا أخوتي...
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- المرجعية وخط المواجهة مع المخدرات
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود