حجم النص
القاضي ناصر عمران التغيير ديدن المجتمعات وروحها الحية القادرة على انتاج الجديد بروح المنهج التنظيري العلمي والسلوك المجتمعي، فالعلوم تتطور من خلال البحوث والدراسات والتقييم المنهجي الرصين وكذلك السلوك المجتمعي يتغير طبقا لروح التطور وعصرنة الحياة، والعلوم والقوانين الجنائية ليست استثناءً. ويؤكد ذلك تاريخ تطورها فالسياسة الجنائية التي ترتكز عليها هذه العلوم والقوانين والتي يعود الفضل في تسميتها للفقيه الألماني (فيورباخ) والتي بدأت بالجريمة والعقوبة وافرزت ظهور علم الإجرام وبعدها علم العقاب ثم تلاه علم ضحايا الإجرام وكل ذلك ضمن آلية العدالة الجنائية التي تعكس في نظرتها عدالة المرحلة والحقبة الزمنية التي تراها متناغمة مع مفاهيمها، فكانت كما يصفها الفقهاء (الثابت المتغير) ابتدأت كعدالة عقابية متناسبة بين جسامة الجريمة ونوع ومقدار العقوبة المناسبة لها والتي تحقق الردع العام وبمرور الزمن تحولت الى عدالة تأهيلية انتقلت من الرؤية العقابية الى رؤى تأهيل المجرم وإعادة إنتاجه اجتماعيا كعضو منتج في المجتمع من خلال برامج تأهيلية إصلاحية أخذت على عاتقها إبعاد المجرم عن السلوك العدائي وقد أنتجت هذه السياسة الكثير من الثمار التي انعكست إيجابا على المجرم والمجتمع وهي العدالة المطبقة الان في اغلب دول العالم، لكنها أيضاً أعطت نسب إخفاق أصابت روح العدالة الجنائية بالكثير من الإحباط، الأمر الذي اصطلح على تسميته مع بداية الألفية الثالثة (بأزمة العدالة الجنائية) ما حدا بالمختصين في شؤون العدالة البحث عن أشكال جديدة للعدالة تتناسب مع روح الجديد والمتغير بعد أن أصبحت العدالة الجنائية عقيمة وهذا البحث قاد إلى ظهور شكل جديد من اشكال العدالة اصطلح على تسميته (بالعدالة التصالحية) التي ترتكز على اساس الضحية والاهتمام به والالتفات الى حاجاته وجبر الاضرار التي لحقت به من جراء الجريمة بالإضافة الى الاهتمام بالأطراف الاخرى وهما (الجاني والمجتمع). وهذا الاهتمام يستدعي اعادة العلاقة الاجتماعية من خلال جبر الضرر وأزالت آثار الجريمة والتي يكون للجاني دورا كبير في ذلك بما يحقق الاندماج الاجتماعي والعلاقة مع الجميع والمحافظة على السلم الاجتماعي. لقد ظهرت العدالة التصالحية كنهج بديل للعدالة الجنائية كما يرى مؤسسها (هاورد زاهر) بعد ان اصبحت العدالة الجنائية عدالة عقيمة من جانب واحتكارها للعقاب بيد الدولة وهو ما يراه زاهر أساساً في ظهور العدالة التصالحية القائمة على مفردتين لهما دلالات مهمة وهما: العدل والتسامح. والعدالة التصالحية كظاهرة تجد جذورها في الدول الانجلوسكسونية التي تعتمد القانون العرفي الذي يمتاز باعتباره اكثر مرونة وتجاوز للشكليات والذي يعتمد على اكتشاف الممارسات التقليدية في فض المنازعات والاستفادة منها على خلاف الدول الاخرى التي تعتمد القانون المدون الوضعي. وظهرت العدالة التصالحية رسميا بشكل مشار اليه في مؤتمر الامم المتحدة العاشر لمنع الجريمة والذي عقد في فيينا وتضمن اعلان فيينا في عام 2000 للحد من ظاهرة الاجرام والتأكيد على الصلح والتصالح والتشجيع على تضمين برامج العدالة التصالحية وان يكون عام 2002 عام مستهدف لمراجعة برامج الدول وفي دورة المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الامم المتحدة الذي عقد في فيينا عام 2002 والذي اعلن ان معظم الدول اكدت على ترويج العدالة التصالحية ضمن انظمة العدالة الجنائية، وقد جاء تعريف المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الامم تأكيدا على ذلك والذي ينص على: ان العدالة التصالحية تتشكل من اي مسار يشارك فيه كل من الضحية والجاني او اي شخص او مجموعة تتضرر من الجريمة للإسهام بفاعلية بهدف ايجاد الحلول لكل المسائل ذات العلاقة بالإجرام وبمساعدة ميسر.فالعدالة التصالحية من خلال المفهوم الاممي هي منهج اوسلوك يسعى للتصدي للسلوك الاجرامي عبر برامج ومسارات تصالحية ترتكز على مبادى اساسية مهمه وهي: مشاركة الاطراف المعنيين بالجريمة (الضحايا والجناة والمجتمع) على اساس الاحترام المتبادل بين كافة الاطراف والالتزام بمسار النتائج المقبولة التي يتم التوصل اليها بين الاطراف، كما ان اهداف العدالة التصالحية المتمثلة بتعزيز النظام والسلم الاجتماعي عن طريق كشف كل سلوك اجرامي واعتباره غير مقبول اجتماعيا اضافة الى تجريمه القانوني ومساعدة الضحايا وجبر الضرر والاحساس بمظلوميتهم ومساعدتهم في تحقيق مطالبهم وتحمل المسؤولية من الجميع وبخاصة الجاني وابداء الاعتذار والاقرار بمسؤوليته عن الجريمة وتحمل تبعاتها والتعهد بعودته عضوا فاعلا في المجتمع وكل ذلك يتم في مناخات تصالحية قائمة على التسامح وقبول الاخرو بمشاركة اطراف المجتمع عن طريق ممثليهم في التسوية التي تتم فالعدالة التصالحية كما يقول الاستاذ (كاريو) استاذ علم الاجرام في الجامعة الفرنسية لم تحقق نجاح للضحايا فقط بل حققت نصيبا من النجاح للجناة وذلك من خلال تحملهم المسؤولية والذي يحقق بالتبعية نجاح للمجتمع وذلك من خلال عدم عودتهم للإجرام. والحقيقة ان مفهوم العدالة التصالحية الذي تعتبره المنظمات الدولية والدول المتقدمة عدالة واعدة تتجاوز سلبيات وعقم العدالة الجنائية لم يكن جديداً على مجتمعاتنا العربية و الاسلامية فالدين والفكر الاسلامي يضج بمتبنيات هذه العدالة الواعدة بل ان عقائده الملزمة توجب الأخذ بتلك المبادئ التصالحية للخروج من حالة العداوة والبغضاء الى رحاب المحبة والإخوة وتعزيز البناء المجتمعي، كما ان اعرافنا الاجتماعية حوت الكثير من هذه المبادئ والأهداف المعززة للتسامح والتصالح وما كان المشرع العراقي بعيدا عن ذلك حيث نص في المواد القانونية (194، 195، 196، 197،198) من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1972 المعد ل وفي الفصل الخامس وتحت عنوان الصلح على الاجراءات الخاصة بقبول الصلح وانهاء النزاع المنظور امام المحاكم الجزائية حيث جاء بنص المادة 198 الاصولية (يترتب على القرار الصادر بقبول الصلح نفس الاثر المترتب على الحكم بالبراءة).
أقرأ ايضاً
- إمام العدالة
- اغتيال الامام علي بن ابي طالب (ع) اول محاولات القضاء على الدين والعدالة
- أثر الذكاء الاصطناعي في العدالة الجنائية