حجم النص
بقلم: عباس عبد الرزاق الصباغ لم تُثرْ جدلا قانونيا وسياسيا عاصفا أيةُ مادة في الدستور العراقي الدائم لعام 2005 كالذي أثارته المادة (38) والدارجة ضمن فصل "الحريات" منه وهي التي كفلت ظاهريا وعشوائيا حرية التعبير: (الفصل الثاني ـ الحريات: المادة (38) تكفل الدولة وبما لايُخلُّ بالنظام العام والآداب: اولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون) ومن ظاهر منطوق هذه المادة المثيرة للجدل يتبين أنها تشي بمداليل هلامية وزئبقية وحمالة أوجه كثيرة بما ترك المجال واسعا للتأويلات والتفسيرات التي خضعت للتجاذبات السياسية والتخبطات القانونية والتفسيرات الخاطئة لماهية حرية التعبير من قبل الشارع العراقي الذي عاش كبتا لجميع الحريات ومنها حرية التعبير طيلة عقود من القمع والقسوة التي كانت تصل حد الإعدام لمن يجرؤ على إبداء رأيه او إظهار فكرة لاتنسجم مع السياسات الديكتاتورية وتشمل حتى التلميحات او الإشارات التي كانت تُفسر على أنها انتقادات مباشرة للنظام. ولكن وعلى حين غرة ومن خلال الانتقال المفاجئ الى مناخات الحرية والديمقراطية التي هطلت من "السماء" وعلى شكل دفعة واحدة أحدثت نوعا من الشيزوفرينيا عند الكثيرين فلم تستوعب مدركاتهم جو الحرية التي فُسرت تفسيرا سايكلوجيا خاطئا على أنها "تعويض " لسنوات الكبت والقهر والاستبداد و"المحرومية" واستثمار التفسير الكيفي والعشوائي لهذه المادة التي استحالت الى قميص عثمان يرفعه البعض حسب مزاجه وهواه لتبرير الاعتداء على الحقوق العامة للدولة والمواطنين بحجة أن الدستور قد كفل ذلك، ولكن الدستور لم يقلْ أن تتحول الحرية في التعبير الى ممارسات غوغائية او يُبرر التخلف المجتمعي الضارب في متون مجتمعنا تبريرا يفسره البعض على انه حق طبيعي وان كان مخالفا لأبسط قواعد الذوق الإنساني والعرف الاجتماعي والمنطق الحضاري ، ونلاحظ في إطار هذه الفوضى المجتمعية والحضارية العارمة، عندما يُوجه أي لوم او انتقاد لشخص ما على تصرف ما سيرد وبالفم "المليان" (آني ابكيفي) و(هيه حرية وديمقراطية) وفي جميع المجالات لاسيما السياسية منها، وقد تتطور المسالة الى منازعات عشائرية وقانونية كيدية لاتنتهي بسلام، والبعض يرمي الكرة في ملعب (المحرومية والمظلومية) ووجوب التعويض عن "قرون" من الاضطهاد والحرمان واسترداد "الفرصة" من (الاخر) وحتى وان كان هذا الاخر شريكا تاريخيا ضمن خيمة المواطنة والتآخي ولم يكن اقل محرومية ومظلومية عن غيره. البعض ظن بان هذه المادة (38) ستِّحول العراق الى "هايد بارك" مجاني تشبها بما يحدث في بريطانيا العظمى صاحبة الديمقراطية الأعرق في العالم وفي بلد تُحترم فيه الحدود العامة للدولة والمواطن ولكن!! عندنا وفي العراق ماهي الحدود المرسومة قانونا للحرية في التعبير عن الرأي؟ مع العلم ان الدستور العراقي وضع مادة هلامية فضفاضة ولم يحدد ماهية تلك الحرية او يرسم لنا متونا قانونية واضحة لها (أولا:حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل) فماهي هذه "الوسائل" وكيف تُستخدم ومتى وتحت أي ظرف ؟ والى اي مدى تصل فيما أشار إشارة هلامية اخرى الى بعض تلك "الحدود" بـ (وبما لايخلُّ بالنظام العام والآداب) ولكنه لم يوضح تلك الحدود التي يتم التوقف عليها بما يخص النظام العام والآداب وما المقصود بالنظام العام او الآداب، سابقا وقبل التغيير كان النظام العام يعني النظام الحاكم ورموزه وشخوصه وشواخصه ولكن وبعد التغيير ماهي الهوامش المتاحة لحرية التعبير ؟ في حين ان الدستور مزج بين عدة أمور في مادة واحدة وكلها تشكل خطرا على امن الدولة والمجتمع إن أسيء استخدامها (ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي) وكل هذه الأمور تحتاج الى قوانين خاصة بها على حدة والى توضيح علاقتها بأمن الدولة والمجتمع لاسيما في حالة الحرب والطوارئ فالمزج والخلط مابين مجالات متعددة لحرية التعبير خطأ دستوري فاضح، فلم يوضح لنا الدستور ما المقصود بالنظام العام وماهياته القانونية وآثاره الإجرائية لاسيما ان القضاء العراقي لم يطرح اي قانون يفسر به حدود حرية التعبير فهل ان تعابير مثل النظام العام والآداب العامة تخص الدولة ومؤسساتها الحيوية ام تخص المجتمع العراقي العشائري ام تخص المواطن العراقي كفرد يجب ان يحتكم لآليات العقد الاجتماعي فبقيت عبارة (وينظَّم بقانون) التي أتت في ذيل الفقرة (ثانيا) من المادة (38) هائمة على وجهها دون قانون يفسر ماورد في فقراتها في ظل مشهد سياسي محتقن ومضطرب ومجتمع يعاني من تشرذم سيوسولوجي مزمن، فلم يصدر اي قانون ينظم تلك الحدود بينما صمتت المحكمة الاتحادية العليا فضلا عن القانونية البرلمانية عن إعطاء اي تفسير قانوني لهذه المادة مع إحجام فقاء القانون الدستوري عن رفع اللبس الموجود في الفقرات الثلاث في المادة (38) والتي تحولت الى شماعة يرمي عليها البعض تصرفاتهم المسيئة للنظام والآداب العامة وأخطاءهم وخطاياهم وتفسيراتهم الكيفية لهذه المادة التي شُرعت ضمن دستور لطالما قيل انه كتب على عجل وكان ومايزال حافلا بالألغام القابلة للانفجار في أية لحظة فالمطلوب من المشرعين العراقيين وأرباب القانون الدستوري وضع تفسيرات ملائمة توضح حدود ومعايير حرية التعبير وأثرها السياسي والمجتمعي وحتى الجنائي او تعديل المادة 38 بشكل يلائم الأمن القومي والمجتمعي العراقي وهي دعوة يرجى منها أن لاتكون أتت في الوقت الضائع . كاتب عراقي
أقرأ ايضاً
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة
- إضحك مع الدولة العميقة
- العراق.. "أثر الفراشة" في إدارة الدولة