حجم النص
بقلم:نــــــــــــــزار حيدر خيطٌ رفيعٌ هو نفسه الذي يصفهُ القرآن الكريم بقوله {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. فالتّظاهرات التي يشهدها العراق منذ عدة أسابيع، هدفُها الاصلاح وليس الفوضى، فكيف يمكننا الحفاظ على جوهرِها وحمايتِها من عبثِ العابثين؟!. قَبْلَ ان أُجيب على هذا السّؤال، دعوني أُحدِّد لكم هويّة العابثين، فهم؛ الف؛ إمّا أيتام الطّاغية الذّليل صدام حسين ونظامه الاستبدادي البوليسي الذين يسعَون لإعادة عقاربِ الزّمن العراقي الى الوراء، فعندما يئِسوا من إمكانيّة تحقيق ذلك من خلال العمليّة السياسية التي دسّوا أنفسهم فيها وتسلّلوا لها، كالنّمل من عيوبها، بطريقةٍ او باخرى ليقلبوا الطّاولة على الجميع، راحوا اليوم يبذلونَ كلّ جهدٍ ممكنٍ لاثارة الفوضى اولاً قبل قلب الطّاولة بطريقةٍ اخرى. باء؛ أو العناصر الجاهلة الفوضويّة التي اختلطت عندها الامور، ولذلك تراها تتخبّط في شعاراتها وأدواتها وأهدافها، يتّضح ذلك من سلوكيّاتها غير المنضبطة والمتناقضة!. جيم؛ أو الاحزاب الحاكمة والمشاركة، بطريقةٍ أو بأُخرى في السلطة، فهؤلاء الذين بدأوا يتوجّسون خيفةً من التّظاهرات الشعبيّة التي بدأت تكبر أسبوعاً بعد آخر، يحاولون، كذلك، اثارة الفوضى في وسط المتظاهرين لخلق الذرائع (القانونيّة) لضربِها والإجهاز عليها، وهو الامر الذي نبّهَ اليه السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي خلال حديثه مؤخراً في محافظةِ البصرة، عندما حذّر الاحزاب السّياسية المشاركة في السّلطة من مغبّة نقل صراعاتها الى الشّارع من خلال النّزول مع المتظاهرين لافساد هويّة التّظاهرات او تغيير مساراتها بِما يَصُبّ لصالح هذا الحزب او ذاك في إطار صراعات الاحزاب!. هذا الشّيء يتطلّب من المتظاهرين إِبعاد كلّ العناصر الحزبيّة التي تسعى لتوظيف الشّارع في صراعاتها الحزبية، وكذلك الأيديولوجيّة والعقائديّة، وفضحها ومقاطعتها ليبقى الشارع وطنياً وحراً ونزيهاً ًمستقلاً لا يتّبع ايّ حزبٍ من أحزاب السّلطة بعد ان ثبُت فشلها وتورّطها بالفساد المالي والاداري بلا استثناء. قد يقولُ قائلٌ؛ انّ التعميمَ هنا ظُلمٌ! وأجيب؛ لذلك دعوتُ، ولا ازال، ادعو الى تقديمِ (عِجْلٍ سمينٍ) او اكثر الى القضاء ليتبيّن لنا الفاسد من النزيهِ، وعندها فسوف لن يكون للتّعميمِ معنىً، امّا الان، فلا زال الشعب لم يرَ حتى (عِجلٌ) واحدٌ خلفَ القضبان، كيف تريدهُ ان يميّز بينهم؟ فبصراحةٍ اقول {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فبعد ان سمِعنا كل السياسيّين والمسؤولين يصرخون بتأييدهم للإصلاح ويدعونَ للضّرب بيدٍ من حديدٍ على الفساد والفاسدين! لم يعُد بإمكاننا التمييز بينهم!. نعودُ لنجيبَ على السّؤال الّذي صدّرنا به الحديث؛ اولاً؛ نحن عندنا الان عمليّة سياسيّة جديدة أُسسها الدّستور ورأي الناخب الذي يُدلي به في كلّ مرّة في صندوق الاقتراع، بالاضافة الى المؤسّسة الاساسيّة التي يُنتجها صندوق الاقتراع، واقصد بها مجلس النّواب. ولا يختلف اثنان على هذه الأسس الثّلاثة ووجوب الحفاظ عليها كونها مقوّمات ايّ نظامٍ ديمقراطيٍ في هذا العالم، يُنشد بناء نظامٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ حرٍّ ومستقرٍّ. فالخلافُ برايي، ليس في هذا ابداً، وانّما في التفاصيل، وهي التي يسعى الشعب اليوم الى تغييرها واستبدالها بعد تجربةٍ دامت لحدّ الان اكثر من عقدٍ من الزّمن، منحت العراقيّين الفرصة الكاملة والزمن الكافي لإعادة النّظر في كلّ تفاصيل العمليّة السياسية، بما في ذلك الدستور، وهو أَمرٌ ليسَ بدعاً ولا هو بالشّيء المستحيل، فلقد مرّت كل دول العالم الديمقراطية بمثل هذه التّجارب، فغيّرت دساتيرها وبدّلت زعاماتها في منتصف الطّريق، بدءً بالولايات المتحدة الأميركية وانتهاءً بالجمهورية الاسلامية في ايران، مروراً بكلّ دول اورپا، ولذلك يمكن القول بأَنّ ما يريدُهُ اليوم المتظاهرون من تغيير وإصلاح لا يُعتبر بدعاً في تجارب الأُمم والشعوب والامم ابداً، وهو حقّ دستوري بلا جدال. انّما يبدأ الخلاف والاختلاف في طريقة الاصلاح، فبينما نسمع اليوم أصواتاً تطالب بإلغاء كلّ شيء والبدء بالعمليّة السياسية من نقطة الصفر، كأن تدعو الى الغاء الدستور والبرلمان والحكومة وكلّ شيء، لنعود الى المربّع الاول من العمليّة السياسيّة، وهو الامر الذي اعتبرهُ آخر الدّواء، لا اعتقد اننا وصلنا اليه الان، خاصَّةً في ظلّ سيطرة الارهابيين على نصفِ العراق، ولذلك لم تُشِر اليه المرجعيّة الدينيّة العليا بعدُ، لانّهُ دٓليلُ الياس من حالِ المريضِ!. برأيي فانّ هذه الطّريقة من التفكير تنتهي بِنَا الان الى الفوضى، فالإصلاح لا يعني الغاء كلّ شَيْءٍ، وانما تصحيح كلّ شَيْءٍ في إطار خطة عملٍ بمساراتٍ واضحةٍ ضمن جدول زمنيٍّ محدّد لكلِّ خُطوة. ولحسنِ الحظّ فانَّ المشرّع الذي دون الدّستور حدّد طرقاً وأدوات واضحة لعمليّة التغيير والتبديل والإصلاح، لا ينبغي لنا الان ان نفسح المجال لكلّ مَن هبّ ودبّ للقفزِ عليها وتجاوزها بحجّة الاصلاح ومحاربةِ الفساد، ابداً، وعلينا ان نتذكّر، بهذا الصّدد، انّ الأسس الثّلاثة للعمليّة السياسيّة الان ما هي الا نتاج الشّارع وليست نتاج انقلاب عسكري مثلاً او ما أشبه، فالدّستور صوّتت عليه أغلبيةُ العراقييّن، وانّ هذه الأغلبيّة هي الّتي مارست حقّها الدّستوري في العمليّة الانتخابيّة الاخيرة، وبالتّالي فانّ ما أنتجهُ صُندوق الاقتراع، مجلس النّواب الحالي، وما نتجَ عنهُ من بقيّة مؤسّسات الدولة، رئاسة الجمهوريّة والحكومة وغيرها، هو نتاج إرادة هذه الأغلبيّة من العراقيين، كلُّ ما في الامر انّ بعض هذه الأغلبية، غيّرت رأيها بعد ان اكتشف بالتّجربة انّ خياراتها كانت خطأً ولم تكن دقيقةً، وانّ من منحوهم الثّقة وأجلسوهم تحت قبّة البرلمان، خانوا الّناخب واستغلّوا التّفويض لتحقيق مصالحهم الشّخصيّة، ولذلك خرج الشارع البوم ليعبّر عن اعترافهِ بالخطأ داعياً الى ومطالباً بالاصلاح والتّغيير، مدعوماً بخطابٍ مرجعيٍّ شديد اللهجة وحازم هذه المرّة، وهو أمرٌ حسنٌ ليس فيه أدنى قدح، فلقد حصل هذا الامرُ في الجارة الجمهوريّة الاسلاميّة في ايران في اوّل تجربة انتخابات رئاسيّة، فعلى الرّغم من انّ اكثر من [٧٠٪] من الشّعب الإيراني وقتها صوّت لصالح أوّل رئيسٍ للجمهوريّة، المخلوع ابو الحسن بني صدر، بعد ان صدّق قائد الثورة الاسلامية وقتها الامام الخميني قدس سره، على خيار الشّعب، الا انَّ الاخير أحسّ بخطئهِ مبكّراً فبادر الى خلعهِ واختيار آخر هو الشهيد محمد علي رجائي، حتّى قبل ان يكمّل مدّتهُ الدستورية، وهي (٤) سنوات!. التّجربة نفسها شهدتها مصر قبل سنتين، فبعدَ ان صوّت الشارع لصالح أول رئيس جمهورية بعد التغيير، المخلوع محمّد مُرسي، تبيّن لَهُ خطأ خيارهِ وانه لم يكن دقيقاً فبادر للنزول الى الشّارع وإسقاطهِ وتغيير المعادلة، كذلك حتى قبل ان يكمّل مدّتهُ الدستوريّة (٤) سنوات!. هذا الحق يُمارسهُ اليوم الشّارع العراقي، فبعد ان تبيّن لَهُ انّهُ أخطأ في خياراتهِ فلم يكن دقيقاً فيها، قرّر اليوم ان ينزلَ الى الشّارع ليعبّر عن هذا الخطأ ويسعى لاصلاح المسارات، ولكن ليس بطريقةِ الرّجل الذي ارادَ ان يطردَ الذُّباب من على أنفِ صاحبهِ فضربهُ بفأسٍ هشَّمَ وجههُ!. انّ المطالبة بتغيير الدستور حقّ، وله طريقه القانوني. وانّ المطالبة بتغيير النظام من البرلماني، مثلاً، الى الرّئاسي، كذلك حقّ، وله طريقهُ القانوني. كما انّ تغيير مجلس النوّاب او الحكومة او أيّ شَيْءٍ آخر، حقٌّ وله طريقه. ولذلك اقول، فانّ الخيط الابيض الذي يفصل بين الاصلاح والفوضى هو الطّريق الذي نسلكهُ، فاذا كان في إطاره القانوني والدّستوري فذلك هو الاصلاح بعينهِ، امّا اذا تمرّد على القانون والدّستور، وابتعد عنهُما، فتلكَ هِيَ الفوضى. لهذا السّبب، فانا اعتقد انّ مِن واجبِنا ان نكون حذرين جداً حتّى لا نمارس الفوضى ونحن نتصوّر انّنا نُمارس الاصلاحِِ، الامر الذي يحتاج الى ان يعود المتظاهرون دائماً الى ذوي الخبرة من العلماء والفقهاء والمتخصّصين في مجالِ القانون والدستور، للاسترشادِ برأيهم عند تحديد الخطوات اللازم اتّباعها لتحقيق الاصلاحِِ القانوني والدّستوري، فلا نتورّط بالفوضى لا سمح الله!. كذلك يلزم العودةِ الى المفكرين والباحثين وأهل الخبرة والتّجربة عند رسم الأهداف الآنيّة والاستراتيجيّة للتّظاهرات، لتسير بالشّكل الصّحيح فتحقّق أهدافها بأقصر فترةٍ زمنيّة وبأقلِّ التضحيات!. ولذلك فانا اعتقد بانّ التُّؤدةَ التي يبديها الدكتور العبادي في مشروع الاصلاح، هي في محلّها لانّهُ يسعى جاهداً لتحقيق الاصلاح الحقيقي المستديم والمستقرّ الّذي يريدهُ الشّارع وتؤيّدهُ فيها المرجعيّة الدّينية العليا، من دون التورّط بايّة فوضى مذمومة وغير مقبولة من أحدٍ ابداً، طبعاً من دون ان يعني ذلك، ابداً، التّبرير للتأخر لحدّ الان في تقديم (عِجْلٍ سمينٍ) او أكثر للقضاء، فانّ مثل هذه الخطوة التي يجب ان تتحقّق في أَسرعِ وقتٍ، تصبُّ في جوهرِ الاصلاح ومحاربة الفساد والضّرب بيدٍ مِن حديدٍ على الفاسدين، كما انّها تُطَمْئِن الشّارع الغاضب والمرجعيّة الدينيّة العليا، التي صمّمت هذه المرّة على الذّهاب بالملف الى النّهاية وبمتابعةٍ دقيقةٍ، فهي مؤشر على مدى جدّيّة الدّكتور العبادي في مشروع الاصلاح الحكومي الذي اعلنَ عنهُ. وبهذا الصّدد؛ فانّ علينا ان نحذر من التّضليل الّذي يسعى لخلطِ الاوراق في الشّارع، تارةً بالتقوّل على لسانِ السيد رئيس مجلس الوزراء بكلامٍ لم يقلهُ، كما نُقل عنهُ امس كذباً وزوراً بانَّهُ قال انّ التّظاهرات تفويض شعبي لي لالغاء الدّستور وحلّ مجلس النواب! وتارة بالتّقوّل على لسانِ الشّارع الغاضِب من خلال ظهورٍ اعلاميٍّ لمجهولين يتحدّثون باسم الشّارع من دونِ ايِّ تفويضٍ!. على الشّارع ان يسعى بكلِّ خطواتهِ وشعاراتهِ للانسجام مع الخطاب المرجعي من جانب، ومع مشروع الاصلاح الحكومي من جانبٍ آخر ليوصد الأبواب بوجه كلّ المتصيّدين بالماء العكر سواءً من أيتام النّظام البائد او من الاحزاب الحاكمة، خاصةً المتضرّرين لحدّ الان من حزمة الإصلاحات، واخصُّ بالذّكر من خَسِرَ منصبهُ فيحاول بأبواقهِ التّشويش والتّشويه على المتظاهرين وأهدافهم وشعاراتهم، وَإنْ جاء كلُّ ذلك على حسابِ العراقِ! وأخصُّ بالذّكر من لازال يحلم، فيرفض التّصديق بأنَّ (عِجْلاً) جرّدتهُ الإصلاحات من كلّ شيء!. وبصراحةٍ اقول؛ فانَّ التّغيير الحقيقي الذي يُلامس جوهر العمليّة السياسيّة برمّتها، لا يتحقّق الا بشرطين رئيسيّين؛ الشّرط الاول؛ هو مليونيّة التّظاهرات، لتعبّر عن رأي الأغلبية. الشّرط الثّاني؛ هو وحدة الشعار الذي يُحدّد وحدة المطلب. والا؛ فسيظلّ تأثير التّظاهرات محدوداً يُمكن استيعابهُ بمرور وقتٍ قصيرٍ، والالتفاف عليها من قِبَلِ الاحزابِ الحاكمةِ، ولو بعدَ حين!. ؛ E-mail: nhaidar@hotmail. com
أقرأ ايضاً
- بَيْنَ سُلطَتَينِ؛ الدَّولة والعِصابَةِ! .. [القِسْمُ الأَوَّل]
- بَيْنَ مُؤَسَّسَتَيْنِ!
- بَيْنَ الْحَجِّ وَالأَرْبَعينِ