لم يعد استقرار الأسرة العراقية مهدداً بالخيانة التقليدية فحسب بل ظهرت ظاهرة جديدة ألقت بظلالها على محاكم الأحوال الشخصية، وهي الخيانة الزوجية الرقمية في عصر هيمنة الهاتف الذكي ومنصات التواصل الاجتماعي تحول مفهوم الإخلال بالواجبات الزوجية ليمتد ليشمل الرسائل النصية المكالمات الخاصة تبادل الصور والفيديوهات والمحادثات العاطفية عبر الإنترنت هذه الأدوات أصبحت مصدراً لقلق بالغ يهدد كرامة وحقوق الأزواج وسلامة نسيج الأسرة.
إن البيئة الرقمية أصبحت أرضاً خصبة لهذه الممارسات نظراً لسهولة إنشاء حسابات سرية والخصوصية الكبيرة التي توفرها التطبيقات وإمكانية التواصل الفوري والدائم مع أطراف خارجية بالإضافة إلى الإدمان المتزايد على استخدام الإنترنت، وتُشير الدراسات إلى أن منصات مثل (فيسبوك، واتساب، إنستغرام وX) هي الأكثر ارتباطاً بنشوء هذه العلاقات خارج إطار الزواج.
ويمكن تعريف الخيانة الإلكترونية (الرقمية) بأنها شكل من أشكال التواصل غير المشروع بين أحد الزوجين وشخص آخر عبر وسائط الإنترنت يتضمن إيحاءات عاطفية أو جنسية أو تبادلاً لمحتويات خاصة أو بناء علاقة افتراضية تتجاوز حدود الوفاء واللياقة الزوجية وعلى الرغم من أن هذا السلوك قد لا يرقى إلى الاتصال الجسدي إلا أن الآثار النفسية والاجتماعية التي يخلفها لا تقل خطورة عن الخيانة التقليدية.
ومن الأهمية بمكان في الجانب القضائي التفريق بين المفهوم الواسع للخيانة الزوجية والمفهوم الضيق والجزائي لجريمة الزنا:
فالخيانة الزوجية: مفهوم شامل يغطي كل سلوك يمثل إخلالاً بالثقة بما في ذلك الممارسات العاطفية الرقمية (تبادل الرسائل الغرامية أو الصور والفيديوهات). وهي لا تستلزم وقوع علاقة جنسية فعلية بل يكفي لإثباتها وجود إخلال بالثقة الزوجية ووقوع ضرر معنوي أو نفسي واضح.
وجريمة الزنا: مفهوم قانوني خاص يتطلب وجود الوطء الجنسي الفعلي ويشدد القانون العراقي على أن إثبات هذه الجريمة يجب أن يتم بأدلة جزائية صارمة مثل شهادة الشهود العدول أو الإقرار الصريح ولا يمكن الاكتفاء بالرسائل الرقمية وحدها لإثباتها.
وخلاصة القول ان كل جريمة زنا زوجية تُعتبر خيانة ولكن لا تصل كل خيانة إلى مرتبة جريمة زنا الزوجية وبناءً على ذلك فإن الخيانة الرقمية يمكن أن تؤدي إلى أحكام التفريق أو عقوبات مدنية في إطار الأحوال الشخصية او تشكل جريمة من جرائم الجنح (الأفعال المخلة بالحياء) حتى في غياب الدليل القاطع على الوطء الفعلي.
تصدى القضاء العراقي لهذه الظاهرة المستجدة في ظل فراغ تشريعي نسبي وقد واجه القضاة تحديات كبرى في تطبيق الضوابط القانونية التقليدية على الأدلة ذات الطبيعة الإلكترونية وذلك بسبب:
1-صعوبة التثبت من الملكية والموثوقية يواجه القضاء صعوبة في التحقق من صحة الأدلة إذ ينكر المتهمون ملكيتهم للحسابات الرقمية أو يزعمون تزوير الرسائل، ما يعقد مهمة المحكمة.
2-خطر إزالة الأدلة وسهولة حذف الرسائل أو الصور من قبل الطرف الآخر تؤدي إلى فقدان أدلة إدانة جوهرية قبل وصولها إلى المحكمة مما يمنع جمع الأدلة في القضية.
3-تباين الاجتهادات القضائية أدى عدم وجود نص موحد إلى تفاوت في الأحكام فبعض المحاكم تعتمد الرسائل والمكالمات الرقمية كدليل على الخيانة الزوجية بينما تشترط محاكم أخرى أدلة مادية ملموسة على الزنا مما ينتج عنه نتائج متباينة في دعاوى متشابهة
لقد استوعب القضاء العراقي هذه الظاهرة وتطور موقفه تجاهها عبر مرحلتين جوهريتين:
1-المرحلة التقليدية (التشدد في تقدير الأدلة): في السنوات الأولى لظهور جريمة الخيانة الزوجية الرقمية الاليكترونية كان التوجه بالتشدد في تقدير الأدلة الإلكترونية. ففي قرار لمحكمة التمييز الاتحادية بالعدد 5148/هيئة الأحوال الشخصية/2014 اعتبرت المحكمة أن المكالمات الهاتفية وحدها "لا ترقى" إلى مستوى الخيانة الذي يبرر التفريق وكان هذا الموقف قائماً على فهم تقليدي للأدلة المقدمة في الدعوى واشتراط أدلة مادية مباشرة.
2-مرحلة التطور (المرونة في تقدير الأدلة واعتماد القرائن القانونية ): مع اتساع الظاهرة تبنّى القضاء اتجاهاً أكثر واقعية معتمداً الأدلة الإلكترونية كقرائن كاملة على الإخلال الجسيم بالعشرة الزوجية وأصبح القضاء يصدق أحكام التفريق استناداً إلى تجميع الأدلة مثل الرسائل الكثيرة ذات الطابع الغرامي تبادل مقاطع الفيديو التواصل المستمر مع طرف أجنبي والحسابات السرية المخفية واعتبرت المحكمة أن هذه السلوكيات تُشكل ضرراً معنوياً بالغاً يبرر التفريق بموجب قانون الأحوال الشخصية، حتى لو لم يتم التحقق من الوطء الفعلي.
ومع كل ما تقدم فانه يتعين على المشرع والقضاء إعادة تقييم الأطر القانونية لتغطية هذه المستجدات وحماية الأسرة من التفكك، وذلك من خلال:
المعالجات التشريعية المتمثلة في:
1-تشريع نص صريح في قانون الأحوال الشخصية يعرف الخيانة الزوجية الإلكترونية وأشكالها تحديداً.
2-تعديل قانون العقوبات: معالجة السلوكيات التي ترقى إلى محاكاة العلاقة الجنسية رقمياً بما يمكن تسميته الزنا الإلكتروني.
3-تشريع قانون الجرائم المعلوماتية: لتعزيز الحماية القانونية للأسرة من مخاطر الابتزاز الرقمي الذي قد ينشأ عن هذه العلاقات.
المعالجات القضائية والإجرائية المتمثلة في:
1 -توحيد الاجتهاد: العمل على توحيد الاجتهاد القضائي حول حجية وتقدير الأدلة الرقمية لضمان العدالة والمساواة.
2-إنشاء وحدات متخصصة: تأسيس وحدات تحقيق رقمي متخصصة داخل المحاكم تكون مؤهلة لجمع وتحليل الأدلة الإلكترونية.
3-التحليل الفني الإلزامي: اعتماد التحليل الفني للأجهزة الرقمية كإجراء لضمان صحة وموثوقية الأدلة المقدمة.
4-تعزيز الوساطة الأسرية: تفعيل دور مكاتب البحث الاجتماعي (الوساطة الأسرية) قبل اللجوء إلى الحكم بالتفريق.
وختاما لم تعد الخيانة الزوجية الرقمية سلوكاً ثانوياً بل أصبحت خطراً استراتيجياً على استقرار الأسرة ورغم أن القانون لم يلاحق سرعة التطور التكنولوجي فقد تولى القضاء مهمة سد الفجوة متطوراً من مرحلة التردد إلى مرحلة تقدير واقعية الظاهرة واعتبارها ضرراً بالغاً.
إن معالجة هذه الإشكالية لن تتحقق بالاجتهاد القضائي وحده بل تتطلب منظومة متكاملة تشمل تشريعاً واضحاً وقضاءً متخصصاً وتحقيقاً رقمياً صحيحاً مقترناً بوعي اجتماعي واسع إن حماية الأسرة العراقية في هذا العصر الرقمي هي مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع والسلطة القضائية، ولا تحتمل التأخير.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!