حجم النص
بقلم: عباس عبد الرزاق الصباغ كشفت الأزمة السورية عن ملامح بروز ستراتيجيات جديدة في الشرق الأوسط كانت قد اضمحلت او دخلت فعالياتها مرحلة "السبات" وهي ستراتيجيات كانت قد اضمحلت بعد تفكك (او تفكيك) الاتحاد السوفيتي السابق في العام 1991 وانفراد الولايات المتحدة في حقل التنافس الذي كان محموما على المراكز الحيوية في العالم لاسيما منطقة الشرق الأوسط، كما كشفت هذه الأزمة عن حدة التصارعات الدولية وعن شدة التناحرات الإقليمية ودور العامل الطائفي والقومي الشوفيني في تأجيج و"إدارة " تلك التناحرات التي بدأت تأخذ طابعا دمويا غير مسبوق (سوريا أنموذجا) ما يوحي بأن الشرق الأوسط مقدم على مرحلة جديدة تختلف فيها خارطتها الجيو سياسية عما ألفته في العقود السابقة. وكشفت الأزمة السورية عن أزمة اخرى وهي أزمة عالمية تتمثل في عودة التنافس الكلاسيكي مابين القوة العظمى الوحيدة حاليا في العالم وهي الولايات المتحدة والتي ماتزال منفردة بصفة "العظمى" ومعها توابعها وذيولها في الناتو والمجموعة الأوروبية واليابان واستراليا وكندا وغيرها من جانب ومن جانب آخر محاولة عودة روسيا التي تحاول ان تبدو كقوة عظمى بعد تلاشي حلف وارشو ماعدا بعض "الحلفاء" الثانويين والإقليميين للعودة كقطب مناوئ للولايات المتحدة ومنافس من خلال مد شبكة المصالح وعرض "العضلات" وهو ما يجري في سواحل المتوسط لإعطاء إشارة للمجتمع الدولي وشعوب الشرق الأوسط بأن العالم لم يعد احادي القطب او ان "انتاج " القرار الاممي لم يعد حصريا في كواليس البيت الأبيض وان أميركا لم تعد اللاعب الوحيد المسيطر على آليات اللعبة الدولية خصوصا وان تجربتي العراق وأفغانستان المريرتين والمُكلفتين ماديا وبشريا لم تبرحا من المخيلة الشعبية الأميركية حتى الآن. ورغم ان الولايات المتحدة "كما يبدو" لاتعبأ بالفيتو الروسي او الصيني او بأي فيتو من اية جهة، ولا تعبأ بانفراط عقد التحالفات الستراتيجية والتاريخية مع بريطانيا العظمى -وهي اهم حليف لها- وهذا تحول آخر كشفت عنه الاحداث السورية الساخنة، ولاتعبأ ايضا بالتواجد الروسي المسلح وهو مايشي بعودة الحرب الباردة بين الطرفين، الا ان مسارات اخرى باتت تشهدها السياسة الخارجية الاميركية تنبع من توجه ادارة الديمقراطيين متمثلة بالرئيس اوباما ومن التوجه الاميركي عموما بعدم الانزلاق في مغامرات غير مضمونة النتائج او محمودة العواقب وقد تجر الى مآزق اكبر من التدخل العسكري وتوجيه ضربات تأديبية لهذا الطرف او ذاك بشتى الحجج والتبريرات، وذلك من خلال تضارب المصالح بين "الكبار" اذا ما اعتبرنا ان الوضع في الشرق الأوسط الملتهب وبالأخص المشهد السوري يعطي اكثر من دلالة على انبعاث الحرب الباردة بين "قطبين" او محورين كانا في السابق يستخدمان العالم الثالث كرقعة شطرنج تتخندق فيها الارادات والمصالح والمحاور وتسيِّر الاجندات المخابراتية لكلا القوتين العظميين آنذاك بيادق هذه الرقعة كيفما تشتهي وحسب ما تريد وفق مصالحها و"أمنها" القومي. واليوم تحاول روسيا الرجوع الى ذات الساحة وذات اللعبة ورعاية مصالحها التي اضحت مهددة بالخطر بسبب خشية زوال منافذها الستراتيجية في الشرق الاوسط ومحاولة استرداد "هيبة" الاتحاد السوفيتي السابق وفك الخناق الاميركي عن القرار الدولي الذي يجب ان يحظى بمصادقة الاعضاء الدائمين في مجلس الامن (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، فضلا عن روسيا) او بإشهار الفيتو في وجه أي قرار لايتناسب مع مصلحة أي عضو من هؤلاء تحديدا، ولكي لاتنفرد أميركا وحدها بالقرار والتي إن شاءت ذلك فإنها تتجاوز مظلة الأمم المتحدة ومعها مجلس الامن الدولي كما حصل في حرب العراق، ولهذا فان الحراك الروسي كان على اشده بكافة الاتجاهات ومن ضمنها العسكرية وهذا يعني ان روسيا لن تقف مكتوفة الايدي اذا ما ضربت الولايات المتحدة نظام الاسد وهذا الاجراء يعيد الى الذاكرة القريبة سياسة الاستقطاب التي كانت تنتهجهما القوتان العظميان والتلويح بالقوة باعتبار ان الشرق الأوسط بؤرة للمصالح الحيوية ولاستمرار تدفق الطاقة لأي طرف يريد الانفراد كقوة وحيدة في العالم وفي الوقت نفسه فان الأزمة السورية بتطوراتها الدراماتيكية تشكل حلبة جديدة و"مثالية" للتصارع واثبات الذات وكشف القوة والنوايا لهذا الطرف او ذاك وسواء تحققت الضربة الاميركية ام لم تتحقق فان روسيا وجدت طريقها داخل قلب الشرق الاوسط. إعلامي وكاتب مستقل [email protected]