يتصور البعض متوهما ان البناء الطائفي المجتمعي لم يكشف عن عورته إلا حينما تداعت وانهارت آخر صروح للديكتاتورية تلك التي أرسى قواعدها الخلل البنيوي الفاضح المصاحب لتأسيس البناء السياسي للدولة العراقية الحديثة (1921) ولم يكن هذا البناء بمنأى عن التأسيس الطائفي للعملية السياسية والتي لم تكن راسية تماما على قواعد وطنية وهياكل توافقية ولم تتمثل فيها الدولة بأطرها القانونية والدستورية وإنما جاءت بصيغ سياسية مستوردة وبعيدة كلية عن الواقع العراقي سوسيولوجيا وديموغرافيا وسياسيا وكانت بدورها مؤسسة لهشاشة البناء السياسي وضبابية الديناميكية التي أسست بدورها لصيغ متنوعة للديكتاتوريات التي تعاقبت على المشهد العراقي أفضت جميعها الى تراتبية النتائج التي آلت إليها حزمة التغيرات ومجمل التداعيات بعد سقوط النظام السابق ...
البناء الطائفي في العراق كان وما يزال البطن الأكثر رخاوة والخاصرة الأكثر إيلاما في النسيج المجتمعي العراقي والأكثر توترا وانشطارا وتشظيا واستحضارا لدواعي القلق وعدم الاستقرار والتفتت الذي لازم صيرورة هذا البناء لكنه ورغم كوامن التعثر ومزالق الانشطار ومنحدرات التشتت، فإن دعائم البناء والرسوخ المجتمعي النسبي لم تتعرض إلى التمزق المفضي إلى انسلاخ مكون عن بقية المكونات او انسلاخه عن الإطار الوطني الجامع وفي حد مقبول من التعايش الأهلي والسلم الممكن.
وحين تداخلت السياسة مع الدين وتعشق الدين بالسياسة واُتخذ َ الدين وسيلة لتحقيق الأغراض السياسية والمصالح الشخصية اتخذت الطائفية بعدا آخر أكثر خطورة من الأبعاد المجتمعية والفقهية والثقافية حين خرجت من دهاليز الدرس الفقهي وكواليس التعدد الاثني والمناطقي والاختلافات المعرفية ذات الحد المقبول وذلك حين وظفت تلك الاختلافات (او الخلافات) في المعنى الأدق بما يخدم الأغراض السياسية ومآرب السياسيين والأحزاب التي اعتاشت على كاريزميات التمزق بكافة أشكاله ومن أهمها الشأن الطائفي خاصة تلك المنسجمة والمتلائمة مع الأجندات الخارجية والمتزامنة مع انهيار الدولة العراقية وان كانت هذه الدولة قد شهدت أكثر من انهيار خلال العقود الثمانية المنصرمة لكنها لم تكن بمستوى انهيار الدولة التراتبي بعد زلزال نيسان 2003 والذي انهارت معه جميع أسس البناء الدولتي الذي لم يكن كما أسلفنا مبنيا على الأسس الوطنية الصادقة والمتحققة بآليات التوافق الوطني والمتقولب ضمن مقاربات الولاء للوطن كمؤسسة حاضنة للدولة والحكومة والشعب ولم يكن نافرا عن التحاصصات والتخندقات التي تأتي الطائفية في مقدمتها وما تؤدي الى احتراب أهلي يفضي إلى الشتات المجتمعي والى تفعيل نماذج من الشروخ التي لا يمكن لأية عملية \"مصالحة\" أن تلغي آثارها بسهولة وبجرة قلم أو بمؤتمر ينعقد هنا او هناك لهذا الغرض في حين ان الذاكرة الجمعية ربما تكون قد تناسلت على إيديولوجية الانشقاق وإلغاء الآخر في أحسن تقدير ومن ثم عدم إمكانية التآلف او التحالف ضمن الهوية الوطنية الا بحدود مرحلية ضيقة وبصيغ مجاملات هشة ماتلبث ان تتفكك عند احتدام الأزمات وتداعي الصروح السلطوية القائمة على الظلم والتعسف واشتعال بوادر الحرب الأهلية التي لا تكفي كل المبادرات الترقيعية لإيقاف فتيلها ...
ومن الطبيعي ان يستمر هذا الوضع \"المأزوم \" ليشمل جميع الأبعاد التاريخية والمجتمعية والفكرية وبما يشبه إلغاء الآخر إلغاءً كليا ابتداء من أول نقطة انطلاق تاريخية ومن أول لبنة تأسيس ديموغرافية واول درس فقهي مع استمرار التعايش الحذر بين المكونات الطائفية فضلا عن المكونات القبائلية والمناطقية التي لم تكن هي الأخرى متمتعة كليا بالانسجام التوافقي المطلوب فنشأ توتر طائفي قبائلي مناطقي مستمر امتد على مدى القرون الماضية ما ألقى بظلاله القاتمة على فترة تأسيس وبناء الدولة العراقية الحديثة الأول وعلى التأسيس الدولتي الثاني بعد زوال حكومة صدام حسين التي كانت إحدى نتاجات وإفرازات التوتر المزدوج والقلق التاريخي المستمر من هشاشة البناء وتخلخل البنى التحتية البنيوية التي ترتكز عليها أية دولة في مخاضها التأسيسي وانبثاقها وصيرورتها واستمرار وجودها...
الطائفية بقيت خامدة لكنها لم تكن في يوم ما ميتة فهي لا تلفظ أنفاسها الأخيرة إلا إذا اندمجت الولاءات المتعاكسة وتماهت كليا في إطار الهوية الوطنية وانصهرت في بودقة الانسجام الوطني ودخلت مرحلة ما بعد الدولة وفوق الولاء المتخندق غير الناضج ..
وكم من مرة استيقظت الطائفية من سباتها لتتحول الى غول يبتلع الحد الأدنى من الوفاق الوطني والتعايش السلمي ليضع مستقبل الوطن وحاضره في مهب الريح كما حصل إبان احتدام التنازعات السياـ مذهبية بين الدولتين العثمانية (السنية) والدولة الصفوية الإيرانية (الشيعية) دفع العراقيون ثمنها نيابة عن طرفي الصراع وباِلحجة الطائفية ذاتها والتي لم يجن منها الشعب العراقي شيئا مذكورا كما لم يجن ِ من غيرها شيئا ..
وتجلى التخلخل البنيوي في مقاربات التأسيس الطائفي والسياسي وصار أكثر وضوحا حينما وجد تنظيم القاعدة بعض الملاذات \"الآمنة\" لينفذ أجنداته الإرهابية والتدميرية والتي تطابقت مع بعض التوجهات الطائفية ذات النزعة الأصولية التكفيرية والمتواشجة مع بقية الاتجاهات ذات الأهداف المشتركة مع القاعدة ولو لم يكن هذا الخلل موجودا لما استطاعت القاعدة وغيرها من اختراق الصف الوطني ومد ذراعها ليعبث بالعراق وأهله ولما استطاعت بعض الجهات الإقليمية من التغلغل السلبي وفرض اجنداتها وتصوراتها الخاصة بها في عراق مابعد صدام حسين.....
ومن الممكن ان نعتبر النزعة التحاصصية احد وجوه عدم التوازن الوظيفي بين المكونات الطائفية خصوصا اذا ما كانت المحاصصة هي المرحلة الانتقالية ما بين الديكتاتورية والديمقراطية او كانت الدرجة الأولى في سلم التحول الديمقراطي فلا يؤدي هذا الأمر إلى استمرار التعثر التأسيسي المزمن وديمومة عوامل التنازع المناقض لجدلية التعايش تحت الخيمة الوطنية فحسب وإنما يؤدي إلى انبعاث الديكتاتورية من جديد ورجوعها بآليات ووجوه جديدة وبأساليب حداثوية قد تكون أكثر شراسة من الديكتاتوريات السابقة ..فلا سبيل إذن عن الخروج من النفق الطائفي الضيق والمعتم إلى باحة الولاء الوطني الرحب والمضيء كما فعلت الشعوب المتمدنة التي عالجت أهم ثغرات بنائها الدولتي وجنحت الى التماهي في قضية الوطن بعيدا عن القضايا الفئوية وعلى رأسها العقدة الطائفية التي عانت منها الكثير شعوب العالم الثالث ودفع الشعب العراقي ثمنها الباهظ أكثر من مرة ...
عباس عبد الرزاق الصباغ
إعلامي وكاتب