التقاعد !!!، هذه المفردة، التي قضّت مضاجع اجيالٍ، من موظفي الخدمة العامة، ما زالت تفرض سلطانها عليهم، وهي تخرجهم من وظائفهم صاغرين، وبحكم ( القانون )، لتنتهي بهم الى حيث لا يتمنون
باعةً متجولين او على الارصفة، او مستخدمين هنا وهناك، او باحثين عن فرصة عمل، يسترون بها عيالهم وانفسهم، بعد ان يكون التقاعد قد سلبهم، نصف معاشهم او يزيد. ومعضلة التقاعد ( حتى لا اقول مأساته )، تفاقمت تحت راية الدولة الشمولية، واقتصادها المركزي تحديداً، وازعم ان جوانب مهمة من هذه المعضلة، قد ارتبطت بنظرة منحرفة لموظف الخدمة العامة، بعدّه من شغيلة السلطة المملوكة للسلطان، ومن بعض متاعها وادواتها، وطالما شهدنا حالات يكون فيها التقاعد، عقوبةً تطال بعض المغضوب عليهم، لأسباب تكون في معظم الحالات، بعيدة عن معايير الاداء الكفء.
وعلى الجانب الآخر، فان تقاعد موظفي الخدمة العامة، والراتب التقاعدي تحديداً، هو في دولة الديمقراطية، من بعض حقوق المواطنة، وحق المواطن الانسان، في ان يتمتع بمستوى معاشي لائق، يضمن له الامان والرفاهية والحياة الكريمة، فهو ليس منّة ولا حسنة من احد. كما انه في حالات خاصة ليس حتفاً، لا مفرّ منه، طالما ان المعنيين به، لهم القدرة ولديهم الرغبة على مواصلة العمل، وينطبق ذلك بشكل خاص، على ذوي المؤهلات العلمية الرفيعة، والتخصصات التقنية النادرة، من اساتذة الجامعات، والاطباء والمهندسين والفنيين، في مؤسسات الدولة الأخرى. ففي دولة مثل جمهورية مصر العربية، وعلى الرغم من ان التقاعد ( الالزامي )، معمول به في مؤسساتها على وفق القوانين النافذة، وهو كما في كل بلاد الشرق المثقل بالتخلف والفقر، كابوس يترصد موظفي الدولة، وينذرهم بالفاقة والعوز والهوان، الا ان الجامعات في هذه البلاد، مستثناة من بلاء التقاعد، او (المعاش) في لغة اهلها. وتحضرني اسماء كثيرة لأساتذة جامعيين، مازالوا في الخدمة الجامعية، وهم في ثمانينياتهم او تجاوزوها الى التسعين، واذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، اساتذة كبار في العلوم الانسانية، من امثال الدكتور احمد ابو زيد، او الدكتور عاطف وصفي، والدكتور حسين فهيم، اطال الله اعمارهم جميعاً، حتى ان فيهم من يعمل خارج بلده، على سبيل الاعارة العلمية، لما لهم من فضل كبير، ومنزلة مرموقة.
واذا كانت رزايا التقاعد لموظفي الدولة، بعدّه قدراً وحتفاً لا منجاة منه ولا فرار، بحكم الفلسفة الشمولية وثقافتها المتعسفة، التي مازالت حاكمةً فينا، قد انعكست بكل عتوها، في حنايا قانون الخدمة المدنية، فهي قد افسدت الكثير، من فضائل قانون الخدمة الجامعية، عندما نفثت سمومها الخطرة في المادة ( 11 ) منه، وهي قد اتخذت من سن السبعين، عمراً افتراضياً، يفقد بعدها العقل العلمي صلاحيته، فيطاح به بذريعة بلوغ سن التقاعد. ونحن اذا استثنينا حالات شاذة، قد يفقد بها الاستاذ الجامعي لياقته البدنية او العقلية، فان مثل هذه السن، التي حددها مشرعونا معياراً لتقاعد العقل، هي سن النضج والابداع، واكتمال المشروع العلمي لعضو الخدمة الجامعية. وتشبث الاستاذ الجامعي بموقعه الاكاديمي، ليس مجرد حق مشروع فقط، بل هو طموح علمي، كان على المشرع ان يأخذ به، حتى لا نخسر مع مطلع كل عام، موارد لا تقدر بثمن، من ( شيوخ ) الاكاديمية العراقية، وكبار اساتذتها وحكمائها. ولعل طلب الاغاثة، الذي بين يدي نسخة منه، وقد رفعه الى معالي رئيس الوزراء، الاستاذ الدكتور علاء البياتي، المختص الوحيد في قسمه، بعلم الانسان الاجتماعي، لن يكون الاخير، وهو ليس الوحيد بين علمائنا، الذين يراد الاطاحة بهم، بفرية كريهة اسمها ( تقاعد العقل).
Em. d_ [email protected]