بقلم: عبد المنعم الأعسم
من حيث انتهت حالة العراق، وقبل التقصي عمن اوصلها الى هذه اللحظة التاريخية المأزومة، فانه لا ينطوي على اكتشاف مثير القول بان العراق صار اكثر من عراق، والشعب العراقي شعوبا، والطائفة انتشرت بالعرض الى طوائف متنائية، والعقيدة تفتت الى عقائد بلا طعم، والكتلة السياسية الى كتل مجهرية، والعشيرة الواحدة الى عشائر متناسلة، متقاتلة، على الدوام، والعائلة الى عائلات متناطحة، والمرجعية المجتمعية الى مرجعيات عشوائية، واللغة المتداولة بين الناس الى لغات ازدحمت بالحافات والمخاشنة وفقدان اللياقة وجماليات الهمس والمحبة.. وفي مثل هذه المحصلة لا يمكن للمراقب ان يسأل عن مصير العقل الجمعي، الذي نعته كتابات وتأملات وقراءات كثيرة، فيما دُفنت الى الابد دعوات "انقاذ ما يمكن انقاذه" من قبل العقلاء، واقتصر مثل هذا النداء النبيل على من تسبب في واحدة من هذه العلات، أو في جميعها. أما وقفة التأمل في هذه اللوحة فلا تعدو عن وقفة على صفيح ساخن، سرعان ما يستسلم صاحبها الى الهزيمة.
لاحظ صديق متخصص بسايكولوجيا الباطنيات ان شخصا مرموقا متعلما يدافع عن فكرة يعرف انها باطلة وليست موثقة ولا يقبلها العقل دفاعا حماسيا كما لو ان تلك الفكرة حقيقية، ويعيد الظاهرة الى مظنّة مرضية تضرب العقل الجمعي العراقي حيث يعاني من التباسات من بينها الارتياب بالحقائق وانعدام الثقة بمبدأ التوثق، والدفاع عن الشيء ونقيضه، والخوف من الظهور بمظهر الموضوعي والعقلاني امام الجمهور، برغم معرفته ان الامر ينطوي على خيانة الضمير وإهانة الامانة العلمية.
وبهذا الصدد، لابد من الاشارة الى ان نخباً من الشبيبة المهمشة الساخطة، والكثير من اصحاب العقول (ولا لوم عليهم) يجدون متنفساً وسلوى بالمعارك الاعلامية اللسانية، هابطة المعنى، وباعمدة الدخان المرتفعة من حرائق التشهير والتسقيط وتحشيد الاكاذيب، بل ان الكثيرين يصفقون لابطال هذه المعارك ويرسلون لهم برقيات التأييد "سيروا ونحن من ورائكم" ويتفاعلون مع كومة الإساءات ويحفظون الارقام والنصوص والزلات عن ظهر قلب، وكل ذلك يدخل في عناصر لحظة الالتباس التي تعصف بالعقل الجمعي "ولعمري (هكذا يقول الجاحظ) إنّ العيون لتخطئ، وإنّ الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل" ويزيد "وإنما سُمّي العقل عقلاً وحجراً لأنه يزمّ اللسان عن أن يمضي فرطاً في سبيل الجهل والخطأ والمضرة" وفي سجالاته مع الاخرين يصل الجاحظ الى الخلاصة الثمينة التي يتداولها الحكماء بالقول "إنّ قيام السلطة لتنظيم المجتمع البشري أمر ضروري، وأنّ العقل مصدر هذه الضرورة".
اقول، ان اللجوء الى المنطق العقلي، في تصويب الحاضر العراقي ضروري في الظروف الاعتيادية، وفي كل زمان، وهو أكثر ضرورة في ظروف المنازعات قبل ان يتدحرج العقل الجمعي عن مكانه، وتحل في الرؤوس نشارة الخشب.
استدراك:
"البعض نحبهم لأننا لا نجد سواهم".
جبران
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً