مع وقف إطلاق النار في لبنان، بدأت ملامح التعافي الاقتصادي تظهر ببطء، لكنها تحمل في طياتها تحديات جديدة تعكس واقعاً صعباً خلفته الحرب، فبينما تكافح العائلات لإعادة ترميم منازلها واستعادة حياتها الطبيعية، يشهد السوق ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار السلع والخدمات الأساسية، وسط اتهامات بتفشي ظاهرة "تجار الأزمات".
هذه الظاهرة، التي أثارت جدلاً واسعاً، تجسد استغلال بعض التجار للطلب المتزايد على مواد البناء والإيجارات خلال الأزمة. وفي المقابل، إن هذه الظواهر تعكس اضطرابات اقتصادية أعمق، وسط سياسات فاعلة لإعادة الإعمار وتنظيم السوق، مع تسليط الضوء على دور الاستثمارات الخاصة في تحقيق التعافي المستدام بعيداً عن الفساد واستغلال المساعدات.
ورغم عودة بعض العائلات إلى منازلها، إلا أن العديد من القطاعات في المناطق المتأثرة بالحرب، مثل الجنوب والبقاع، تحتاج إلى وقت طويل للتعافي، خاصة في ظل الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والمرافق. في الوقت نفسه، يستمر النشاط غير الرسمي في بعض المناطق، حيث يستمر بعض البائعين والتجار الذين استفادوا من الأزمة، في رفع الأسعار أو بيع السلع بطرق غير قانونية، مستغلين عدم وجود رقابة كافية. ومع عودة الاستقرار النسبي، تبدأ الأنشطة الاقتصادية الرسمية في العودة تدريجياً، إلا أن التحديات الكبيرة تظل قائمة نتيجة لاستغلال التجار لأوضاع النزوح في أثناء الحرب.
وهذا النشاط الاقتصادي المستجد جراء الأزمة لا يعد ازدهاراً للقطاعات، ويكشف في طياته جانباً آخر من المعاناة إذ ينقسم أولياء هذه القطاعات إلى قسمين، الأول يشعر بالكارثة التي يعيشها، والثاني يعدها فرصة لتحقيق أرباح سريعة تحت شعار "مصائب قوم عند قوم فوائد".
في حين تحدث أحمد، أحد سكان النبطية (جنوب) الذي اضطر لترميم منزله بعد تعرضه للقصف، وقال: "بدأتُ بالبحث عن مواد لإعادة إصلاح النوافذ والأبواب، وفوجئت بأن سعر لوح الزجاج تضاعف ثلاث مرات، ووصل إلى 30 دولاراً للوح الواحد، رغم أنني كنت أشتريه بـ 10 دولارات قبل الأزمة".
وأضاف أنه "تواصل مع تجار آخرين، لكنهم أكدوا له أن الأسعار متشابهة، والسبب هو استغلال الأزمة واحتكار بعض الموردين للبضائع".
أما في الضاحية الجنوبية لبيروت، فأفادت ليلى، وهي أم لثلاثة أطفال، بأنها عادت إلى منزلها بعد انتهاء الحرب لتكتشف أن معظم النوافذ والأبواب قد دُمرت بالكامل، وبدأت في البحث عن ورشة لإصلاح الأضرار، لكنها صُدمت عندما طلب أحد الحرفيين 2000 دولار لترميم النوافذ، وهو مبلغ لا تستطيع تحمله، لتضطر إلى الاقتراض من الأقارب لتعيد الحد الأدنى من الأمان لمنزلها.
بينما خليل وهو صاحب منزل تعرض للقصف في صور (جنوب)، أفاد بأنه بدأ البحث عن مواد لإعادة بناء جدار متضرر في منزله لكنه فوجئ بأن أكياس الإسمنت قد اختفت من السوق المحلي، وعندما وجدها، كان سعر الكيس زنة 50 كيلوغراما بحوالي 20 دولاراً بدلاً من 5 دولارات قبل الحرب. وقال إن التجار اعتبروا أن الأسعار ارتفعت بسبب زيادة الطلب وعدم توفر الكميات الكافية.
في السياق، صرّح مدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة، محمد أبو حيدر، بأن مديرية حماية المستهلك تتابع مسألة الرقابة على سلاسل الإمداد بدءًا من المستورد، مروراً بالتاجر، وصولاً إلى محلات بيع الزجاج والألمنيوم.
وأوضح أن هناك ثلاثة مستوردين كبار يستحوذون على حوالي 90% من البضائع المستوردة إلى لبنان. ومع ذلك، وبسبب مخالفتهم لقواعد تحقيق الأرباح ورفعهم نسبتها من 12% إلى 20%، تم تسطير محاضر ضبط بحقهم.
وأضاف أبو حيدر أن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، حيث يقوم التجار برفع الأسعار بعد استلامهم البضائع، مما يؤدي إلى ملاحظة ارتفاع الأسعار بشكل كبير. وأكد أنه طالما أن المرافق تعمل بشكل طبيعي، فلا توجد أي مشكلة في الحصول على البضائع، وكل المواد متوفرة، بل إن بعض التجار يطلبون كميات إضافية.
وأشار إلى أنه سيتم التعاون مع الأجهزة الأمنية والقضائية لمنع استغلال بعض التجار للأزمات ومعاناة المواطنين خلال هذه المرحلة الاستثنائية. وأكد أن بعض المواطنين عاجزون عن تأمين مأوى لهم، بينما يستغل تجار الأزمة لتحقيق أرباح إضافية على حساب وجع الناس.
وبينما تتفاقم الخسائر الاقتصادية بسبب هذه الأنشطة غير المشروعة، تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد اللبناني قد يخسر أكثر من 10 مليارات دولار، وقد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى 15 مليار دولار أو أقل بحلول عام 2025.
تعكس هذه المؤشرات التأثيرات طويلة الأمد التي قد تنجم عن الحروب، حيث لا تقتصر الخسائر على البنية التحتية فقط، بل تمتد إلى تشويه النشاط الاقتصادي بشكل عام، مما يتطلب حلولاً عاجلة لإعادة بناء الاقتصاد وتحقيق استقرار طويل الأمد.
بدورها، قالت نائب رئيس جمعية حماية المستهلك، ندى نعمة، إن الأزمات والاحتكارات التي يمارسها بعض التجار في لبنان ليست مستغربة، مشيرة إلى أن الطمع والجشع يسيطران على البعض. وأكدت أنه بعد انتهاء الحرب، تواصلت الجمعية مع مدير عام وزارة الاقتصاد، حيث تم إرسال مراقبين إلى الأسواق. ولفتت إلى أن البيانات المعتمدة في مراقبة الأسعار تستند إلى مقارنة الأسعار قبل الحرب والوضع الحالي.
وأوضحت نعمة، أنه يتوجب على الوزارة تفتيش مخازن التجار، مشيرة إلى أن هؤلاء لم ينتظروا انتهاء الحرب لطلب البضائع وشحنها، ولكن المشكلة تكمن في استغلال المواطن. وأضافت أن لبنان يعتمد على الاقتصاد الحر والأسعار التنافسية، إلا أنه في ظل الظروف الاستثنائية مثل الحروب، يمكن للدولة اتخاذ إجراءات لحماية المواطنين، لافتة إلى أنه كان من المفترض أن تصدر وزارة الصناعة قرارًا يحدد أسعار الألومنيوم والزجاج، كما حدث سابقًا بعد انفجار مرفأ بيروت.
وأكدت أن كل الشكاوى التي تصل إلى الجمعية يتم تحويلها مباشرة إلى وزارة الاقتصاد لمتابعتها، واعتبرت أن هذه المرحلة الأولى بعد الحرب حيث شهدت شكاوى عديدة، أبرزها نقص الألومنيوم والزجاج، رغم أن البضائع كانت متوفرة، خاصة أن المرفأ والمطار كانا يعملان خلال الحرب، ولم تشهد الأسواق نقصاً في أي نوع من السلع. وشددت على أن التكافل بين الجهات المختلفة يجب أن يمنع استغلال الناس وفرض أسعار مرتفعة عليهم، لاسيما أن الأوضاع صعبة على المواطنين الخارجين من الحرب.
وأضافت نعمة أن الدولة غائبة عن تقديم المساعدات والدعم، مما دفع المواطنين للاعتماد على المغتربين. وأشارت إلى أن الدول التي كانت تقدم المساعدات سابقاً ما زالت غائبة، مؤكدة أن اللبنانيين نُهبت أموالهم من المصارف، وأنه لو تمكن المواطنون من سحب أموالهم، لما احتاجوا إلى أي مساعدة. وتابعت إن الشكاوى ركزت على أسعار الألومنيوم والزجاج، بينما لم يتم الحديث عن مواد البناء.
وفي سياق متصل، قالت زينب، وهي ربة منزل تعيش في منطقة برج البراجنة بالضاحية الجنوبية لبيروت، إنه كان من المستحيل العودة إلى منزلها دون إعادة تأهيله وطلائه بسبب الأضرار التي لحقت به، وفوجئت بأن سعر الدهان ارتفع بنسبة 300%.
وأوضحت: "عبوة الدهان التي كنت أشتريها بـ20 دولاراً أصبحت بـ60 دولاراً، وسعر لوح الزجاج تجاوز 25 دولاراً.. حتى العمال كانوا يطلبون أضعاف أجورهم السابقة، مما زاد من صعوبة إعادة تأهيل المنزل".
وأضافت أنها وجدت شبكة الصرف الصحي قد تعطلت بسبب تراكم الأنقاض، وعند تواصلها مع سباك لإصلاحها، طلب منها 300 دولار فقط لفتح المجاري، وهو مبلغ مبالغ فيه. وأشارت الى ان الخيارات كانت محدودة، خاصة أن معظم السكان كانوا يعانون من مشاكل مشابهة.
كما برزت خلال الأزمة بعض الظواهر الاقتصادية المثيرة للجدل، أبرزها الارتفاع الكبير في أسعار الإيجارات وظهور ممارسات اعتبرها الكثيرون استغلالاً لمعاناة النازحين.
وقد أصبح مصطلح "تجار الأزمات" تعبيراً عن الغضب تجاه أولئك الذين استفادوا من الظروف الصعبة لتحقيق مكاسب مادية عبر رفع الأسعار بشكل مفرط.
قال عادل، وهو شاب لبناني من منطقة بنت جبيل في الجنوب، إنه بعد أن دُمر منزله بسبب القصف الإسرائيلي، قرر مع أسرته الانتقال إلى بيروت حيث كان لديهم بعض المعارف.
ورغم أنهم استطاعوا تأمين مكان للسكن في أحد أحياء العاصمة، إلا أن الإيجارات كانت مرتفعة بشكل غير معقول. وأضاف أنهم مجبرون على البقاء في بيروت ودفع الإيجار بسبب عدم قدرتهم على العودة إلى بلدته نتيجة الدمار الذي لحق بها ومنع الجيش الإسرائيلي لهم من العودة.
كما أشار إلى أنه لا يستطيع تحمل تكاليف إعادة ترميم منزله، وأن العودة إلى وطنه أصبحت حلماً بعيداً، ويعاني من مشاكل مالية حادة نتيجة العمل في وظيفة غير مستقرة.
في السياق، صرّح الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، أن وصف "تجّار الأزمات" هو تعبير عاطفي يهدف إلى تحقير الأشخاص الذين قاموا بتأجير النازحين بأسعار مرتفعة خلال الأزمة. وأوضح أن هذا الوصف ليس دقيقًا، إذ إن هناك واقعًا اقتصاديًا لا يمكن التغاضي عنه.
وأضاف أن العديد من المؤجرين قاموا بترميم منازلهم التي كانت مهجورة أو غير قابلة للسكن لتلبية الطلب المتزايد خلال الحرب، ما يجعل ارتفاع أسعار الإيجار أمراً طبيعياً لتغطية تكاليف الترميم. كما أشار إلى أنه في لبنان، هناك إحجام عن تأجير الشقق بسبب مشكلات تاريخية، مثل قوانين الإيجارات القديمة وصعوبة إخراج المستأجرين لاحقاً.
وأوضح مارديني أن التحديات المرتبطة بالإيجارات في لبنان تفاقمت مع أزمة الدولار، حيث يُفضّل الناس بناء المنازل بهدف البيع بدلًا من الإيجار، إذ تفقد الشقق المؤجرة حوالي 20% من قيمتها السوقية. وأكد أن المؤجرين الذين قاموا بتأجير الشقق للنازحين خلال الأزمة خلقوا عرضًا جديدًا في السوق وساهموا في تلبية الطلب المتزايد، وبالتالي لا يمكن وصفهم بأنهم "تجار أزمات".
وأشار مارديني إلى أن الحرب أدت إلى تدمير عدد كبير من المنازل، ما زاد من الطلب على الشقق للإيجار.
وأكد أن عدم التوازن بين العرض والطلب أدى إلى ارتفاع الأسعار، وهو أمر طبيعي في ظل قلة الشقق المتوفرة وارتفاع تكاليف الترميم والبناء.
وفيما يتعلق بإعادة الإعمار، أوضح مارديني أن الدولة اللبنانية عاجزة عن تمويل هذه العملية بسبب أزماتها الاقتصادية المتراكمة، بدءًا من تعثرها عن دفع ديونها وصولًا إلى الأزمة المصرفية. وأكد أن تدخل الدولة قد يؤدي إلى أزمة أكبر عبر تضخم مفرط وارتفاع في الأسعار، ما سيؤثر سلبًا على المواطنين.
وشدد على ضرورة البحث عن خيارات أخرى لإعادة الإعمار بعيداً عن المساعدات التقليدية التي غالباً ما تُستغل من قبل بعض أفراد السلطة. ودعا إلى التركيز على جذب الاستثمارات الخاصة، حيث يمكن للشركات الاستثمار في شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والبنية التحتية، ثم تقديم هذه الخدمات للمواطنين بأسلوب تجاري مشروع يضمن استعادة الاستثمار على المدى الطويل. واعتبر مارديني أن الاستثمار الخاص هو الحل الأنسب لإعادة الإعمار في لبنان، إذ يضمن تحقيق الشفافية والابتعاد عن الفساد، ويتيح للمواطنين الاستفادة من خدمات بنية تحتية محدثة وفعالة.
المصدر: العربي الجديد
أقرأ ايضاً
- شاهد قصة انقاذ شعب.. كربلاء الحسين حاضرة في لبنان (فيديو)
- فقدت (200) من احبتها.. "سكينة النبطية" سيدة لبنانية دفنت والدها وشقيقها الشهيدين بيديها
- قدمت لهم (550) الف وجبة طعام :العتبة الحسينية تأوي (8300) وافد من العائلات اللبنانية في كربلاء المقدسة