- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
"السوشل ميديا" وصناعة التفاهة
بقلم: بشائر موسى
اشخاص تحت مسميات مختلفة (بلوكر، يوتيوبر، فاشينستا.....وما الى ذلك من الالقاب) يدخلون في سباق الارقام لصناعة التفاهة ونشرها في مجتمع حتى اصبحت هذه الظاهرة حالة مرضية سرعان ما تؤدي إلى العدوى السريعة والمباشرة حتى أصبح لقب الشخصية المؤثرة الآن يشار به إلى الشخص صاحب الرقم الأكبر بالإعجاب والتفاعل بغض النظر عما يقدمه من محتوى، بعدما كان مصطلح مؤثر يشار به إلى المثقف أو صاحب المنجز الإبداعي أو مستعرض علم ومهارة معينة والذي يسعى لأثبات وجهة نظره لجمهوره أو يكون قادر على التأثير بالمجتمع وبالثقافة الفنون ومجالات الإبداع.
الانتشار السريع الذي وفرته وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تضج بها الهواتف النقالة من (سناب جات، فيسبوك، انستغرام، تيكتوك) بدأت بالظهور على هذه المواقع شخصيات لا تملك اية موهبة ولا حتى تحصيل علمي، شخصيات بمحتوى ومظهر خارجي لم نعهده من قبل، كل ما يقدموه هو التفاهة، كل يوم نصحو صباحا على اشخاص يتصدرون "الترند"، انتشرت هذه الظاهرة كالنار في الهشيم حتى اصبحت التفاهة مهنة يسترزق منها هؤلاء الذين اصبح يطلق عليهم لقب "مشاهير" او "مؤثرين" حتى اصبحوا هم "رموز" إعلامية وفي التواصل الاجتماعي.
الاصل في التفاعل هو الحوار لذلك نجد ان صناع التأثير سابقا لا يمكن ان يؤخذ منهم الا ما هو مقبول، وتجدهم من اشد الرافضين او الممانعين للأفكار الغريبة، ولاسيما الشاذة منها والتي طرأت حديثا، وهذا ما يخلق حراكاً ثقافياً في المجتمع. على العكس من بعض ما يطلق عليهم تسمية "صناع المحتوى" في وقتنا الحالي اذ تجدهم جل همهم هو مدى قدرتهم على جمع أكثر عدد من المشاهدات لنجد ان "المؤثر" يتحول من تافه بلا قيمة الى شخص يحتذى به ويتابعه ملايين الاشخاص.
يروى أن رجلا جاء الى سقراط متبخترا في مشيته مختالا بما يلبس متباهيا بأناقته فقال له سقراط (تكلم حتى اراك)، بالأصل فان القيمة الحقيقية لا تقاس بمدى جمالك واناقتك ولا حتى ما ترتديه "وان كان هذا مطلوبا لكن باعتدال" الا ان ما يصدر عنك من سلوك في القول والفعل هو الاصل، قد يكون مؤثر صاحب محتوى يتابعه الملايين الا أن المحتوى الذي يقدمه يساهم في صناعة التفاهة.
وبالمقابل هناك الكثير من صناع المحتوى يقدمون أفكار وطروحات وقراءات ويناقشون قضايا علمية وثقافية وسياسية واجتماعية وفلسفية بأسلوب وطرح جديد وسلس، لكن التفاعل معهم يكون ليس بمستوى المحتوى المعرفي والثقافي الذي يقدمونه. وبالنتيجة يكون الأكثر انتشاراً هم صناع التفاهة وتحوليها إلى نظام يتقبله المجتمع!
حالة التفاهة التي تحيط بنا يقف من وراها شخوص كُثر فهناك صناع ومنتجون مستثمرون ومخططون وحتى رعاة ومستفيدون وابواق لها. وقد نجحت مواقع التواصل الاجتماعي بتحويل التافهين الى رموز لأننا في زمن يكافئ التافه عوضا عن المؤثر الحقيقي، إذ صار بمقدور أي جميلة بلهاء تمتلك جسد بمقومات معينة او أي وسيم فارغ المحتوى ان يفرضوا انفسهم على المجتمع عبر مجموعة منصات هلامية لا ينتج منها أي منتج صالح لتحدي الزمان اذ اننا في زمن سيطرت فيه التفاهة على جميع مفاصل الحياة حتى انها صارت تُكرم ويكافئ اصحابها.
اتسع حضور التفاهة حتى باتت تلامس كل شيء يخص حياتنا بصورة مباشرة او غير مباشرة، الشارع والمنزل، الجامعة والعمل؛ تغلغلت في الفن والادب حتى انها تعدت كل ذلك لتصل الى السياسة؛ حضورها اصبح واضح بشكل مدروس وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي اضافة الى اجهزة الاعلام الاخرى المسموعة منها والمقروءة والمرئية حتى الاعمال المسرحية لم تنجو من ذلك فنجد كتب ومسلسلات تصدر ليس لها أي قيمة أو تأثير في المجتمع، لأنها تسوق التفاهة أكثر من أن يكون هدفها الارتقاء بالمجتمع.
خلطت التفاهة واختلطت بكل المهن حتى تلك التي هي في الاصل مخصصة للمناصب الرفيعة والتي يجب ان لا ينالها الا من هم اصحاب فهم ودراسة وخبرة. ومع انتشار التفاهة انعدمت القيمة الحقيقية وغاب الابداع واصبحت القباحة والرداءة مقبولة لدرجة يتم التصفيق لها وتكريم اهلها، هذه التجارة التي اصبح لها تجارها ومستثمروها من اساتذة ونجوم ومساندون فمن يلقي نظرة على العشرات من الحسابات التابعة لمن يتداولون هذه التجارة ويتمعن بما يتم طرحه من هؤلاء وما يروجون له وما يتم نشره في هذه الحسابات سيصل الى هذه القناعة فهي عبارة عن فوضى لا تخلو من الابتذال والسخرية.
قبل كم عام مضى انتشرت عبارة في طرقات احدى الدول الاوربية على شكل لوحات تحذيرية (stop making stoped people famous) وما معناها (توقفوا عن جعل الناس الاغبياء مشهورين) وهي تدعوا الى التوقف عن دعم التافهين او الدفع بهم الى الامام والتوقف عن التداول للتفاهة او الترويج لها والدفع به الى الواجهة سواء اكانت تلك واجهة العمل السياسي او الاجتماعي وباقي المجالات بلا استثناء.
صار لدينا صناعا للتفاهة بامتياز اصبحوا سلعا رائجة، نوعية من الناس من طراز ردئ يستخفون بعقول الناس يصنعون التفاهات ويروجون لها. إذ يقول الكاتب النمساوي (كارل كراوس) "هوت شمس الثقافة ارضا حتى اصبح الاقزام انفسهم يظهرون بمظهر العمالقة".
انحدار مريع نحو الهاوية يرافقه صعوبة في وضع حد لهذا الانحدار حيث لا الفكر ولا الثقافة ولا حتى الدين بات قادر على وضع حد لهذا السيل الجارف من التسطيح والتسخيف والتجهيل المتعمد. وشجعت شبكات التواصل الاجتماعي على سطحية التفكير ففي ظل هذه الشبكات ليس الكاتب او المفكر ولا حتى المثقف بل النجم اصبح ذلك الشخص التافه وتزداد نجوميته بازدياد ما يروجه من تفاهات، كلما زادت مستويات التفاهة عند الجمهور كلما ازداد ارباح الشركات التي باتت تعتاش على هؤلاء التافهين وما يتبعهم من جمهور والتي اصبح جل همها مضاعفة ارباحها من خلالهم.
وحسب ما يرى المفكر نعوم تشوميسكي فان وسائل الاعلام العالمية لديها عدة طرق للسيطرة على الشعوب اخطرها هو تشجيع الناس على استحسان التفاهة والرداءة والقبول بها والسماح بتوسيع نطاقها واقناع الناس بانهم بذلك يواكبون التطور وفي الحقيقة فان الهدف من ذلك كله هو ان يسيروا رعاعا كالقطيع نحو كل ما هو تافه وردئ وبذلك يسيطرون على الشعوب.
المشكلة كبيرة، متشعبة وخطيرة والمسؤولية تقع على عاتق الجميع والكل معني بها بلا استثناء من الحكومة والعائلة، رجال الدين والمدرسة الجامعة وحتى الشارع.
أقرأ ايضاً
- التفاهة بين عصارة سيكوتين وعلبة ثنر !
- منصة «تبليغ» للوقاية من التفاهة
- الخطاب الإعلامي وصناعة الرأي العام