بقلم/ نجاح الجيزاني
قريب لي يحبُّ أن يكون مظلوما لا ظالما، ولكن بطريقته الخاصة.. كيف هذا؟ ذات يوم توجهتُ اليه بهذا السؤال، لعلّي أقف على فلسفته الظلامية اذا صح التعبير، فقال لي بالحرف الواحد : أليس من الأفضل ان يكون الانسان مظلوما لا ظالما؟ قلتُ : بلى. فقال : وأنا كذلك، لأقرّب لكِ المعنى أكثر، مثلا ركبتُ قبل يومين سيارة أجرة، وحينما أوصلني اعطيته مبلغا من المال، وكان عليه أن يردّ علي الباقي وهي خمسمائة دينار، لكنه لم يفعل بحجة عدم وجود هذه الفئة النقدية في جيبه، فتركته ونزلت من السيارة ناقما، بعد أن جعلتُ ذمته مشغولة لي، وكما تعرفين نحن بحاجة الى الاكثار من الحسنات، ومثل هؤلاء سيطول وقوفهم أمام الله، وستزداد حسناتنا بسببهم، لأنهم ظلمونا في دار الدنيا!! فاعترضت قائلة : ولماذا لا تسامحه يا أخي؟ وما قيمة الخمسمائة دينار في هذا الزمن؟ وهل من الأخلاق أن تجعله مشغول الذمة لك، ولربما يكون صادقا ولا يمتلك هذه الورقة؟ بقي الأخ مبهوتا صامتا ولم يعقّب.. عجيب أمرنا نحن البشر، نظن أننا على خلُق قويم، بينما نحن والاخلاق على طرفي نقيض. لو طالعنا اخلاق الرعيل الأول في صدر الأسلام، سنجد النبل والسماحة ومحبة الأخوان والإيثار هي الصفات الحاكمة والمتأصلة في نفوسهم، أما الانانية والاستئثار والكيدية فهي تكاد تكون معدومة في قاموسهم. قرأت قبل فترة قصة لأحدهم، وهالني مقدار الطيبة التي اتسمت بها سرائرهم، والنبل الذي طغى على أوصافهم.. فلنقرأ معا هذه القصة المعبّرة، والتي تنطوي على اخلاقيات عظيمة وشمائل قرآنية فريدة. تقول القصة : (كان إبراهيم النخعي أعور العين، وكان تلميذه سليمان بن مهران أعمش العين (يعني ضعيف البصر ) سارا في أحدى طرقات الكوفه يريدان الجامع.. وبينما هما يسيران في الطريق، قال الإمام النخعي : ياسليمان هل لك أن تأخذ طريقاً وأنا أخذ طريقاً آخر.. فإني أخشى إن مررنا سوياً بسفهائها، يقولون أعور ويقود أعمش، فيغتابوننا ويأثمون. فقال الأعمش ؛ يا أبا عمران ؛ وما عليك نحن نؤجر وهم يأثمون. فقال إبراهيم النخعي : يا سبحان الله ! بل نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون. (نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون) انها القلوب البيضاء المصفاة من كل شائبة، النقية كنقاوة الماء الزلال، قلوب مفعمة بحب الغير، تتمنى الخير لنفسها وللآخرين على حد سواء، قلوب قد زيّنها تقوى اصحابها، حتى غدت قلوبا تسع الأخوان وتلتمس العذر لهم، فأين نحن من تلك القلوب المتماهية في حب الناس؟ صدق نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله اذ يقول : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها. هنا فقط يرتقي السمو والجمال والنبل والخلق الرفيع : نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون. ثقافة قرآنية لا تعيّها ولا تدرك كنهها سوى العقول السامية، والقلوب المتشربة بحب الله والانسان... انها باختصار خلُق الأحرار في كل زمان ومكان.