- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي: المعالجات (الجزء الثالث)
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
الضد لا يعالج إلا بالضد، فالرذيلة لا تعالج إلا بمكافحتها واستبدالها بالفضيلة، والقبيح لا تتضيق وتنحسر مساحته إلا بوجود الحسن، والباطل لا يندفع إلا بأعلاء وإحلال الحق محله، والضلال لا يمحى إلا بظهور الهدى، وأبواب الشيطان لا تغلق إلا بفتح باب الرجاء الى الله عز وجل.
إذن نحن أمام معادلات صعبة في حركة الإنسان في هذا الوجود، وهذه المعادلة تكون نتيجتها سنة من سنن الله في هذا الكون، وهي سنة التغيير، قال تعالى: (إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). وهذه سُنة التغيير رسمت للإنسان خارطة الطريق للخروج من الأزمات والمشاكل التي اصطنعها الإنسان على نفسه، وهذا التغيير والخروج من الأزمات يرتبط بأمرين:
ـ الأول: إرادة الإنسان
ـ الثاني: فعل الإنسان
ومن دونهما لا يحصل أي تغيير.
اذن فالإنسان يقف أمام هذه المعادلة: إرادة قلبية + عمل الإنسان = تغيير سلوك وأفكار ومنهج وأخلاق وقيم. وبناءً على هذه المقدمة نقول: إن مشكلة الجفاف الروحي التي تعد مشكلة كبيرة في الوقت الحاضر, تبين أنها تحتاج الى التغيير، وهذا التغيير هو علاج تلك المشكلة ولا يحصل إلا بإيجاد سعي حثيث من الإنسان وهو جملة من المعالجات التي لابد للإنسان من تحصيلها، وقد ببنها الشرع المقدس من خلال آيات القرآن الكريم واحاديث النبي (ص واله) وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، فنأتي الى هذه المعالجات الواحدة تلو الاخرى:
ـ أولاً: الفهم المعرفي للحياة على انها جسر ومعبر ومزرعة الآخرة، وأن نؤطر كل حياتنا بهذا الفهم المعرفي للدنيا: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ). وهذا الفهم سيترتب عليه نتيجة مهمة جداً وهي إننا سوف لا نعطي كل اهتماماتنا لها مادامت هي إلى زوال وفناء، وانه سيحدد معارف الإنسان ونظرته الى الكون كما أنه سيحدد سلوك الإنسان وأعماله وبناء علاقاته مع الآخرين على أساس هذه النظرة الجديدة للحياة، فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذم الدنيا: (وَأُحَذّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة، قَدْ تَزَيَّنَتْ بَغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا. لَمْ يُصْفِهَا اللهُ تَعَالَي لِأُوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ، خَيْرُهَا زَهِيدٌ، وَشَرُّهَا عَتِيد، وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ).
اذن.. نظرة الإنسان الى الدنيا ستحدد له أهدافه وتحدد له أيضاً أولوياته وطرق أعماله وستنعكس على سلوكه، وبكلمة مختصرة ستصنع شخصيته ومصيره على وفق هذه النظرة، وهذا معناه أن هذه النظرة الجديدة للحياة ستمده بطاقة كبيرة في الرجوع الى تصحيح رؤيته للدنيا والكون ولنفسه، وهذا معناه هو الرجوع الى الله عز وجل واتخاذ مناهج حياته من دينه تعالى وبالتالي يقوي إيمانه بالقيم الإلهية وهنا سيقف الإنسان في رحلته في محطة التزود الروحي عند اللطف الإلهي والكرم والعفو والرحمة والغفران, وحينها يرتشف الانسان من معين الفيض الالهي غير المتناهي.
ـ الثاني: من وسائل العلاج التي وضعها الشرع المقدس لإحياء الجانب المعنوي كي تكون له الأرجحية على الجانب المادي للإنسان, هو ذكر الله تعالى, وتلاوة كتابه الكريم, والدعاء وغيرها. حيث إن لذكر الله عز وجل أهمية كبيرة في انماء الجانب الروحي عند الانسان بل هو وسيلة من وسائل تكامل الانسان و عامل من العوامل التي لها من القوة والفاعلية في نقل الانسان من ظلمات الذنوب والمعاصي الى نور الهداية الإلهية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا {} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا). وأيضا ما ورد في دعاء كميل لأمير المؤمنين عليه السلام: (اللّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِذِكْرِكَ وَأَسْتَشفِعُ بِكَ إِلى نَفْسِكَ واسالك بجودك ان تدنيني من قربك وان توزعني شكرك وان تلهني ذكرك، اللهم اني..أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع وأن تجعلني بقسمك راضيا قانعا وفي جميع الاحوال متواضعا.. يامَنِ اسْمُهُ دَواءٌ، وَذِكْرُهُ شِفاءٌ).
ولذكر الله عز وجل وظيفة إصلاحية للقلوب التي عمها تخريب الذنوب والخطايا وينقيها كما ورد عن النبي صلى الله عليه واله (الذكر حياة القلوب) وكما ورد في أدعية أهل البيت عليهم السلام (بِذِكْرِكَ عاشَ قَلْبي) وأيضا ما ورد في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: (الهِي ما أَلَذَّ خَواطِرَ الإِلْهامِ بِذِكْرِكَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَما أَحْلَى الْمَسِيرَ إلَيْكَ بِالأَوْهامِ فِي مَسالِكِ الْغُيُوبِ). وقد اعتبر الإسلام الذكر خير الاعمال بل هو ازكى الاعمال حيث ورد عن النبي صلى الله عليه واله (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله عز وجل كثيرا).
بل إن ذكر الله هو الذي ينجينا من شباك الغفلة حيث أن الإعراض عن ذكره من خلال لهو الدنيا والأموال والأولاد هو خسارة كبيرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). إذن الإعراض عن ذكر الله عز وجل هو أحد الخسارات التي سيشهدها الإنسان في يوم القيامة، وبخلافه الذكر فانه نجاة للإنسان يوم الحسرة والندامة، إذن فالذكر رافد قوي جداً يرفد الانسان معنويا ويبني إرتباطاً روحياً مع الله لا تعتريه العوارض ولا تهزه عواصف الإنحلال والرذيلة مهما كانت تملك من قوى الضلال والإنحراف، فان الذكر سيشكل حصانة قوية تحفظه من الضياع والتشتت.
إن لهذا الذكر على إطلاقه (تسبيح أو تهليل أو استغفار وقراءة القرآن..) له مراتب تجسد كل مرتبة نوع علاقة قوة وضعفا مع الله عز وجل منها:
١ـ مرتبة الذكر القلبي: الأساس لسلوك الانسان ولأعمال جوارحه الخارجية في عالم الوجود هو القلب سواء أكانت صالحة هذه الأعمال او طالحة، فان مصدرها هو القلب وباطن الإنسان، فمتما صلح قلب الانسان صلحت أعماله والعكس صحيح أيضاً، وصلاحها لا يكون إلا بالإيمان بالله تعالى، حتى أم الشريعة المقدسة جعلت ميزان الأعمال وقيمتها صدق القلب واستقامة اعتقاداته، لذا قد ورد عن النبي صلى الله عليه واله: (إن الله لا ينظر الى صوركم ولا الى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). بل أن القصد الى الله ابلغ من حركة البدن فعن الإمام الجواد (ع): (القصد إلى الله بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال) فلا قيمة للعمل إذا لم يكن صدوره من قلب مفعم باليقين والإيمان به تعالى، فالإيمان بالله واليقين هو الذي توهجت شعلته في القلب، وهذا هو معنى ذكر ألله القلبي .
٢ـ مرتبة الذكر اللساني: وهذا القلب الذاكر لله سينير طريق الإستقامة لحياة الانسان بعد ان استنار بضياء الهدي الإلهي، ولم يأخذ مشربه من غير الله، ورد عن الإمام الصادق (ع): (القلب حرم الله، فلا تُسكن حرم الله غير الله). فيكون الذكر اللساني بعد تعلق القلب بربه تعالى وانجذابه إليه وصار حرم ألله، كذلك سيتوجه معه ما يرتبط به وهو عمل الجوارح فتلهج به تعالى و بأسمائه وتذعن له بالطاعة فيكون شعارها هو ذكره على جوارحها معلنة بولائها له باستمرار بذكره وتلاوة كتابه الكريم ومناجاته, لتبرز تعلق القلب بشكل ظاهري باللسان بتعظيمه وتحميده وتمجيده وتهليله وتكبيره، لأنه رأته أن ذلك هو معنى العبودية له وحق الطاعة له ومظهر المالكية والشكر له لأنه هو المنعم لا غيره, وأن هذا الحث على ممارسة الذكر ليس له حد معين بل أن الذكر قد ورد في القرآن والروايات الشريفة عن النبي وأهل البيت عليهم السلام قد ورد مقيداً بوصف الكثرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
ومنها قوله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ). ومنها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وغيرها، وما ورد في الروايات الشريفة، قوله صلى الله عليه واله:(عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيرا فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض). وما ورد عن الإمام الصادق (ع): (أكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، فإن الله أمر بكثرة الذكر له) وما ورد عن الامام الحسن العسكري عليه السلام: (أكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّ الصلاة على رسول الله عشر حسنات).
ونشير هنا الى أن بعض الآيات القرآنية اشارت الى أشدّية الذكر كما في قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). والشدة تعني الإلتفاف في أثناء الذكر، وأنه علينا أن نراقب أنفسنا وننتبه ونسأل كم فرطنا من أعمارنا، وكم ضيعنا فرصا من حياتنا من اوقات الفراغ بأعمال التسلية وجلسات السمر مع الأصدقاء أو مشاهدة الأفلام، وتصفح مواقع الإتصال الإجتماعي الذي يسرق من البعض الشي الثمين جداً منه وهو الوقت وغيرها دون أن نجعل حظنا منها هو الإشتغال بذكر الله عزوجل أو الإستغفار أو قراءة القرآن أو الصلاة.
أقرأ ايضاً
- لكم مناصبكم ولنا الجفاف !
- الإعداد الروحي.. سَعي الإنسان وكدحه في إعداده روحياً ـ الجزء الرابع عشر والاخير
- الإعداد الروحي.. الأخلاق وأثرها في الجانب الروحي ـ الجزء الثالث عشر