بقلم:طالب عباس الظاهر
صديقي: هل انت شاعر؟ لا.. لا يهم أن تكون شاعراً.. بل المهم عندي أن تكون شاعرياً. إذا كنت كذلك؛ فكيف لم تتحرك في ذائقتك غيرة الجمال على قصائد شاعر الحب نزار قباني؟ أحس بأنها تحركت عندي وأنا القاص وأنت الشاعر!. فكيف إذن تجرأت على شاعريتك أنت قبل شاعرية قباني، وأنت تشارك على صفحتك تم تجيب بالصمت والصمت علامة الرضا على نقد لشعره بكل هذه الغفلة؟ نعم لدي القدرة على تفنيد كل ملاحظة أدرجت في منشور صديقك الاستاذ الناقد المفلق عن شعر نزار الذي غناه الساهر والذي شاركته على صفحتك.. لكني لا أحب – كما تعرف- الخوض بمثل هذه الاشياء، والدخول في مهاترات ومماحكات عقيمة، لذلك لجأت إلى معاتبتك. واستذكرت استغرابي ودهشتي في إحدى المناسبات من رأيك المخالف في البيت الشعري لنزار قباني الشهير والقائل: ( كَلِماتُنا في الحُبِّ تقتلُ حُبَّنَا * إن الحروف تموت حين تقال). كيف لا يموت الحب يا صديقي وهو يصعد للسان لكي يقال؟ بينما مكانه الحقيقي والأزلي شغاف القلب، وحدقات العيون، والحب كما أحسبه ضرب من المحال.. أعرف بأن أضعف جوانب شخصيتك الأدبية هو جانب النقد. وهذه ليست مثلبة.. أحياناً أعدها مكرمة!. فأصدق الأيمان يبقى حبيس القلب ولا يخرج إلى ميدان المزايدة الرخيصة والإعلان المميت في لقلقة اللسان، على إن كثيراً من الأدباء الكبار ليست لديهم رؤية نقدية حقيقية، رغم خبرتهم الطويلة، لكنهم قد لا يستطيع قلمهم، أو لسانهم ردم الهوة السحيقة بين الإدراك المطلق بالمحسوس، وتحويله إلى ملموس، ومطابقة الفكرة المجردة مع الفكرة المجسدة، وتمثلها بالكلمات والحروف، ولو بنسب مطابقة ضئيلة جداً، لكنها يجب أن تكون مقبولة على أقل التقادير. نحن على سبيل المثال نتحاور كثيراً وكثراً أيضا نتفاهم بأشباه الحقائق، ومسوخ الطروحات، لذلك نختلف كثيرا في وجهات النظر وقليلا ربما نتفق، حينما تتطابق عندنا الرؤى بنسب متفاوتة في كل مرة، وإلا فإن وجه الحقيقة يبقى واحداً لا يمكن أن يختلف عليه أثنان. كما وأعد الحقائق المطلقة كحوريات الجنة أن يكشفن لنا عن طرف من ساق من سيقانهن نخر جميعاً ميتين من ابهار الجمال. لكن أغلب الكتاب الكبار يخاتلون خجلا من الاعتراف بهذا العجز الرؤيوي، ويخاتلون في الغش والاختفاء والتهرب خلف تعويمات وتهويمات معرفية و(بطنطنات) فارغة، وبمرور الزمن تصير لديهم مرنة وتتحول ملكتهم إلى مخاتلة عقيمة مع الحقيقة، لا الحرص على محاولة التحصيل المعرفي من أجل طرق الحقيقة ذاتها، لذلك فهم غالباً ما يسوقون في تصريحاتهم وتنظيراتهم بعموميات لا غير، طروحات لا أحد يمكنه تفنيدها أو اثباتها، لأنها زئبقية الحركة والتحول، فتبقى تراوح بين القبول المعلن والرفض المستتر، ولكنها على العموم هي لا تروي من ظمأ، ولا تشبع من جوع. لكن يبقى المهم عندي هنا طبعاً إنهم قادرون على أن يبدعون النصوص بفطرتهم فحسب، وهذا وحده يكفي لأنهم غير مطالبين أساساً بأكثر من الإبداع. ولكني اتساءل.. كيف سمحت لنفسك.. المباركة بالصمت وأنت ترى هذا التهشيم الجاهل لشعر أشعر شاعر عربي في الحب؟ رغم ايحاءات الإيروتيكية الخفيفة في شعره، وفيها رغم ذلك احدى أهم اسرار الجمال. الموقف ذكرني بدموعي الحارة عند دخول وسيطرة داعش على مدينة الموصل وبدأ تهشيم المعاول.. معاولهم الكافرة لتاريخ العراق العريق في متاحفها القديمة. اجل. من يحب أن يقرأ الشعر ويستمتع به؛ عليه أن يكون شاعريا في معانقة المعاني، وليس مجرد ناقم يسفّه دقة الصياغات الماهرة للصائغ دون معرفة مسبقة بأسرار الصنعة الباهرة، كونه تعود التعامل بآلية العنف للحداد في أدوات العمل بالمطرقة والسندان، والنار والمنفاخ والفرن وأسياخ الحديد!. فمن يكون في حضرة الجمال عليه ان يكون جميلا او ليكرمنا بالسكوت لنستمتع بهدوء نحن بالجمال، ومن لا يستطيع أن يضفي الكثير والغريب من روح الجمال في التأويل على ما يقرأ كعاشق يرى بمعشوقته مما يتعذر على عيون الآخرين ان تراه كما تراه عيناه، فقط لأنه ينظر اليها بعين قلبه لا بعين عقله. فما تراه عين القلب لا يمكن أن تراه عين سواه. أجل، من لا يستطيع ذلك ليحتفظ لنفسه بدواعي سذاجته ولا يحاول أن يقذف بماء غسيله المتسخ على رؤوس الاشهاد.. أفلا ترى معي يا صديقي إننا نتغاضى او لا نرى اساسا عيوب من نحب، وربما نحسبها جمالا حتى يزال غشاء الحب الحلو عن قلوبنا ونبصر الحقيقة المرّة بكل دمامتها وقبحها بعد سقوط المساحيق. وبذات الوقت نغفل عن ترصد الكثير من الكمالات فيمن نكره أو لا نرتاح له فقط، فنرى منه الجميل قبيحاً أحياناً، والحسنات منه نظنها مثالب! على ان حبنا وكرهنا لا يقدمان ولا يؤخران في مسيرة الحقيقة الكادحة إلى الخلود شيئا. لقد صدمت توا بقراءة موضوع على صفحتك أشبه بحفلة استهجان للجمال. وخشيت ان يسقط سقف الشعرية على الرؤوس... رؤوسنا جميعاً، نعم.. فمطرقة الحدّاد القاسية لا تصلح للنقش والتصليح في دقة صياغة الذهب اقصد الشعر. فيا ناس... يا عالم: أرجوكم انظروا إلى الجزء المملوء من كأس الحب لا إلى الفارغ. لقد أدمت غفلتكم روحي وملأت سذاجتكم قلبي قيحاً.. فان الشعر في يقيني أنثى فلا تمسكوا عليها ظاهر نسيانها وهفواتها.. لتضيعوا على أنفسكم عظيم التمتع بلذيذ حسنها وحسناتها.. فما هكذا يورد الشعر!.
أقرأ ايضاً
- الصيد الجائر للأسماك
- ضمانات عقد بيع المباني قيد الإنشاء
- إدمان المخدرات من أسباب التفريق القضائي للضرر