بقلم: زهير الجزائري
من حق الكتاب والإعلاميين أن يقلقوا هذه الأيام على هامش الحرية الضيق الذي كسبوه بعد 2003. الأيام الأخيرة كشفت هشاشة هذه الحرية في بلد متأزم.
فخلال الأشهر الماضية، صدرت عدة مذكرات قبض أو استقدام أو أحكام ضد العاملين في الصحافة أو ممن يظهرون على وسائل الإعلام. حرية التعبير التي وردت في المادة ٣٨ من الدستور العراقي، اكتسحتها مواد مرعبة من قوانين العهد السابق، وفي جو من أزمة و انقسام حاد عطل تشكيل الحكومة لأكثر من ستة أشهر.
المسار السياسي في بلد متازم يؤثر على الاعلام أكثر مما يؤثر الاعلام على المسار السياسي، لأن السلطة السياسية، وهي في أزمتها الحالية تتحول الى سلطة على الاعلام في بلد تاريخ الإعلام فيه هو تاريخ هيمنة السلطة فيه على الإعلام تمويلا وتحكما، ومضمونا.
سابقاً كنت أعلل نفسي بأن انتكاسات الإعلام جزء من تعرجات التاريخ لأنه الا يسير بخط مستقيم، لكنني نسيت إن العودة إلى الوراء جزءاً من تعرجاته. نعود اليوم الى نقطة الصفر لأن الاحزاب الحاكمة نقلت المعركة من البرلمان إلى الاعلام. ولإلقاء الضوء على مقدمات هذه الأزمة أنظر هنا بعضا من فصل من كتابي القادم (سيرة الفاسد):
التاريخ السري
مثل كل الانقلابيين السابقين، بدأ (حزب البعث) منذ أول أيام وصوله للسلطة في الانقلاب الثاني 17 تموز 1968 بالهيمنة على مؤسستين:
مؤسسة العنف المتمثلة بالجيش و الأمن والمخابرات.
والمؤسسة الإعلامية التي تعطي لعنف الدولة مشروعيته.
كنت أعمل في الصحافة المكتوبة التابعة تاريخياً للدولة حين دخل علينا الشاعر (شاذل طاقه) في صباح اليوم التالي للانقلاب، وأملى علينا مانشيت الصفحة الأولى (ثورة بيضاء). في اليوم الثاني ظهرت كل الصحف العراقية وهي تحمل هذا المانشيت برهاناً على وحدة الصوت و الموجِّه.
لم نعرف ونحن في الأيام الأولى للانقلاب هوية المنقلبين وبرنامجهم ولا حتى تراتبية المناصب، لذلك تعودنا انتظار الخبر الأول و الذي سينشر في الصفحة الأولى. هناك صوت خشن شديد الجدية يتنحنح قبل أن يقول لنا مانفعل.
لاحقا ربطت الصحافة بقانون الحزب الحاكم رقم 142 لعام 1974 الذي يطلب من كل وزير او هيئة إدارية، اعتبار التقرير القطري الثامن للحزب، منهاجا و دليل عمل. و عملياً سلط على الصحافة مكتب تابع للحزب وليس للدولة، يدير العمل الصحفي ويحدد المسموحات والممنوعات، ويحدد الخطوط العامة للافتتاحيات و المانشيتات الرئيسية، وصورة القائد التي ستنشر في الصفحة الأولى.. بهذا التحكم الصارم، غاب الخبر بمفهومه الحقيقي عن الصحافة العراقية، فوكالة الأنباء الرسمية هي المصدر الأساسي للأخبار، وتعرض الوقائع بطريقة انتقائية وباسلوب غائي، وغيبت الواقعة الفعلية عن المواطن في إعلام تديره عقول خفية.
الاعلاميون انفسهم لا يعلمون الوقائع الفعلية لما يحدث، ولا يتعبون انفسهم بالبحث عن حقيقة لا يستطيعون نشرها او مجرد الحديث عنها، فهم يدركون بالخبرة والسليقة ان الرقيب لا يعاقب اذا بالغ في المنع، ولكنه يعاقب اذا تسربت أية مادة اعتبرتها السلطات العليا خرقاً للمحرمات. لذلك يزيد الرقيب التحتاني على محرمات السلطة من مخاوفه الخاصة، ويفعل الاعلامي الشيء نفسه، فهو يفضل ان ينقل الرقيب داخله ويضاعفه بعد ان شهد امثلة عن صحفيين يؤخذون من مؤسساتهم ويغيبون نهائيا، او يعودوا محطمين. ولذلك ينتظرون بحكم العادة، الصياغة الرسمية التي ستأتي من القيادة، عبر وكالة الانباء الى الصحفيين ثم عبر الصحافة الى المواطن.
و كانت هناك قوانين صارمة مثل (قانون المراقبة على المواد المصنفة والافلام السينمائية) الذي يمنع "عرض كل ما يؤيد الالحاد والطائفية أو فساد الاخلاق أو الجريمة، ويشجع أعمال التخريب و استخدام العنف ويؤثر على النظام العام و الأمن الداخلي، و يشجع استهلاك المواد المسكرة او المخدرة او لعب القمار او الأفكار الرجعية او الشوفينية أو العنصرية أو المناهضة للعرب، أو أية مواد تحبذ الانهزامية أو تخدم الاستعمار والصهيونية، أو أية مواد لا تلبي اهداف و مصالح وطموحات الجماهير، او تضر الوطن العربي واهدافه وقضاياه المصيرية، أو تجرح مشاعر الدول الصديقة، أو تشوه سمعة حركات التحرر الوطني في العالم، او كانت ذات مستوى فكري و فني ردئ يسيء الى الذوق الحسن".
وزادت هذه القيود بقرارات مجلس قيادة الثورة التي لها قوة الدستور، فقد نصت المادة 225 على معاقبة كل من يهين رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه او مجلس قيادة الثورة أو حزب البعث أو المجلس الوطني، بإحدى الطرق العلنية، بالسجن لمدة لا تزيد على سبع سنوات.
عدل هذا القانون في 4-6-1986 لتصل العقوبة إلى السجن المؤبد ومصادرة الأموال المنقولة، وترتفع العقوبة الى الاعدام إذا كان التهجم سافراً او صريحاً وبقصد إثارة الرأي العام على السلطة.
نتيجة لكثرة الممنوعات، عاش العراقيون، والإعلاميون بالتحديد، في عالم سري يحرم على المواطن حق الوصول الى المعلومات وتداولها، استنادا الى بنود غامضة (مهين للحكومة، ينتهك القيم الاخلاقية العامة، تحبذ الانهزامية او تخدم الاستعمار والصهيونية، أو أية مواد لا تلبي اهداف و مصالح و طموحات الجماهير، أو تضرّ الوطن العربي وبأهدافه وقضاياه المصيرية).
صديقي الشاعر فوزي كريم، وهو غاضب لأن السلطة ألغت برنامجه الإذاعي عن الأدب، شتم الإذاعة في فورة غضب فانطبقت عليه دون أن يدري أربعة بنود من العقوبات: أهان موسسة تابعة للدولة، فعل ذلك بصوت عال بقصد التشهير، شتم حزب البعث لأن المؤسسة محكومة بسياسة البعث، وشتم الرئيس لأن صورته معلقة في كل غرفة من هذه المؤسسة.
المسكوت عنه شكّل الجزء الأكثر أهمية في حياة العراقيين وحاجاتهم للمعرفة. معظم الأمور التي تتعلق بسيادة البلد ومستقبله السياسي كانت خافية على الصحافة وبالتالي المواطنين:
-اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق التي أوقفت إيران بموجبها الدعم الإيراني للحركة الكردية المسلحة مقابل توسيع حصتها في مياه شط العرب.
-الاتفاقية العراقية التركية التي تتيح للطرفين التوغل مسافة عشرين كيلومتراً داخل حدود الطرف الآخر لمطاردة (المخربين)، وهي الاتفاقية التي تشكل الغطاء القانوني للتدخلات العسكرية التركية داخل الحدود العراقية حتى اليوم.
-الاتفاقية العراقية - الإيرانية التي انهت ثماني سنوات من الحرب التي كلفت أكثر من مليون قتيل وجريح من الجانبين.
اتفاقية صفوان التي وضعت العراق تحت بند الرقابة الدولية والحصار
-الخسائر البشرية في الحروب الثلاثة.
لم يجرؤ احد على نشر أخطر ما مر به البلد. المعلومة حتى في عقل الصحفي هي ما يأتي من فوق، من السلطات العليا، وما لا يأتي من فوق، فهو في حكم العدم، لا يمكن الحديث عنه أو توصيله إلا في الجلسات الهامسة. كنت أوصي مراسلتي في بغداد بالبحث عن أخبار خارج الفضاء الرسمي، فلا تجيد ذلك، بل وتستغرب هذا الطلب، لأنها لا تثق بعيونها وهي تتجول في الشارع، تعتقد أن الازدحام المفاجئ في الشارع، او الانفجار الذي هزّ بيتها، كثرة حالات الطلاق بين معارفها، لا تشكل أخبارا تستحق النشر ما لم يتحدث عنها مسؤول في الدولة.
رقابة الدولة ورقابة القاع
بعد تسعة أيام من سقوط النظام السابق في 9/4/ 2003، وثلاثة أيام بعد حل الجيش والأجهزة الأمنية، صدر القرار رقم 17 بحلّ وزارة الاعلام، ومعها عملياً الرقابة التي مارستها الوزارة على الإعلام.
خلال الأشهر الثلاث الأولى من التغيير وفي جو الفوضى شهد العراق ازدهاراً مفاجئاً في عدد الصحف الذي بلغ حوالي 180 صحيفة يومية وأسبوعية وشهرية. التغير لم يكن كمياً فقط، إنما حدث تغير نوعي في ملكية الصحف ومجال حرية الحصول على المعلومات وتوصيلها للناس.
الحكومة الجديدة لم تلغ بقرار رسمي قوانين الرقابة السابقة، لكن الصحافة الجديدة تجاوزتها مستثمرة مناخ الحرية المنتزع من الفوضى.
وكلما تصاعد خوف الحكومة من الاعلام تصاعدت نزعة الهيمنة التي تريد احتواء الإعلام في هيبة الدولة. لا يقتصر الأمر على الحكومة وحدها انما يسري على الوسط الصحفي المنقسم على نفسه. فهناك من يرى الجوانب السلبية في هذه الحرية (كثرة الصحف وتعدد وجهات النظر وغياب رقابة الدولة). بعض الصحفيين رأوا تلازماً بين حل وزارة الإعلام وحل الجيش باعتبارهما وجهان للفوضى. و بعد الضجة التي خلقتها جريدة (نيويورك تايمز) حول تمويل البنتاغون لصحف عراقية، خرجت ثلاث صحف يومية بمقالات تلوم الدولة على وقوفها مكتوفة اليدين إزاء هذه الظاهرة وتطالبها بالتدخل لوضع ضوابط للصحافة.
الأزمة التي أعقبت نشر الرسوم الكاريكاتورية حول النبي محمد (ص) خلقت مناخاً غاضباً حول الإعلام استثمرته الأصولية الدينية بحيث بدت حرية الصحافة ملازمة للإساءة للمعتقدات الإسلامية ولذلك بدات الصحف تتعامل بحذر مشدد مع مثل هذه المواضيع الحساسة.
هذا الخوف من حرية التعبير و حرية الصحافة انعكس في صياغة الدستور، فالدستور يقرّ بحرية الصحافة بجملة قصيرة من ست كلمات. وقد ورد هذا النص في المادة 38 التي تنص على كفالة الدولة لـ:
أولا- حرية التعبير عن الرأي وبكل الوسائل
ثانيا – حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثا- حرية التجمع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون.
على أهمية النص في تعريف المواطن بحقه، فقد وردت عبارات حرية التعبير والنشر في معظم الدساتير العراقية، بمافي ذلك الدستور المؤقت الذي وضعه البعث عام 1970، حيث نص في مادته 26 على “يكفل دستور الدولة حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر وتاسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون. وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات...»
لكن إقرار الدساتير بحرية التعبير اخترقت بكعب أخيل الممثل في الجمل الاشتراطية. البعث ربط ضماناته للحريات بعبارة “ التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي”. بينما وضع الدستور الحالي المحددات قبل الضمانات “ تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب...»
في كل هذه الدساتير أرادت السلطات أن تكتسب مشروعية دولية من خلال إقرارها بالمواثيق الدولية التي تنص على الحريات، في حين تجسد الاشتراطات إلزام المواطنين بعقيدة الدولة. وقد كان النص في دستور البعث عقائدياً بامتياز كونه ربط الحريات بعقيدة الحزب الواحد الذي حكم الدولة، بينما عكست عمومية الشرط في الدستور الراهن تعدد القوى والأحزاب، ورغم عموميتها عكست الثيمة الأخلاقية الدينية للنخبة الحاكمة.
مشكلة الشروط تكمن في عموميتها وكونها حمالة أوجه. لكن هذه العمومية تمنح السطات حرية أوسع وتطبيق أطول. وبالمرونة التي تملكها الشروط ستصبح الأداة (الدستورية) قابلة للاستعمال لفرض هيمنة الدولة على حقوق المواطنين التي ضمنها نفس الدستور المكتوب. والخطر في العبارة حمالة الأوجه (الآداب العامة) تكمن في السؤال: من سيحدد الآداب العامة، وماهي الآداب العامة في بلد متعدد الأديان والقوميات والقوى، والأخطر من ذلك، المتعدد المليشيات؟
كلمات مثل الرموز أو المقدسات (دينية و طنية وجهادية) ترد كثيراً للتحريض أو تبرير الهجوم على الإعلام. ومعها عبارات مثل التطاول و التجاوز و أرقّها كلمة المسّ …وكما نعرف فإن الرموز تهدف لتجميع جمهور حول رمز ديني أو وطني يتفق عليه جمهور واسع أو محدود وتفرض قدسيته وحصانته، أما بالإقناع، أو بقوة المجموعة أو سطوة الدولة أو بمجموعها. تتسع الرموز المحرمة وتتزايد عددا، و باتساعها تتزايد الخطوط الحمر التي تطوق الإعلام. وفي هذه الأيام بالتحديد أضيف لقائمة المقدسات المحرمة مؤسستين، هما الجيش والقوات المسلحة ومؤسسة القضاء.
أقرأ ايضاً
- شرط (حسن السيرة والسلوك) في الوظائف العامة.. شرط قانوني ام إسقاط فرض ؟
- الفساد العلمي بوابة تحول المعرفة إلى سلاح في يد الفاسدين
- الضرب على رؤوس كبار الفاسدين