- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
سد مكحول على نهر دجلة.. مضار كبيرة بدون منافع - الجزء الثاني
بقلم: حسن الجنابي - وزير الموارد المائية السابق
في العراق هَوَس مرضي في المشاريع الكبيرة. ولا اعتقد بأن أحدهم يتقدم لتبرير هذا الهوس، خاصة ان الكثيرين من مؤيدي هذا النهج لم يحدّثوا معلوماتهم بعد تخرجهم من الجامعات قبل ثلاثة أو اربعة عقود.
فهذه المشاريع، وفي المجال الإروائي خاصة، تحمل معها كل شروط فشلها إقتصادياً وبيئياً، والأمثلة كثيرة في العالم. أما في العراق فالأمثلة كثيرة جداً وقد ذكرت منها مشروع كفل-شنافية في الجزء الأول من هذه المقالة. أما الفشل هنا فقد يبدو وصفاً مخففاً، لكنه على الصعيد الفلّاحي والزراعي فهو يمثل مـأساةً كبرى تبدأ بإيقاف النشاط الزراعي للتجمعات السكانية والقرى المتوطنة في موقع المشروع، ولا تنتهي بإفراغ المدن والقرى من السكان، ولا بالتعويضات والنزوح وتعطيل عجلة الإنتاج المعتادة على أمل نجاح ما لا ينجح!
لا يمكن تحت أي ظرف تجاوز أو إهمال الكلفة الإنسانية لتلك المشاريع لمجرد ان المتضررين من الفقراء والمزارعين عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم. ففي الدولة الشمولية، او في الدولة العقيمة، يمكن لتوقيع واحد من قبل مسؤول أن يتسبب بتحطيم حياة آلاف العوائل وإجبارهم على النزوح من مناطقهم الى مناطق أخرى لا تربطهم بها أية وشائج. وفي بعض الأحيان تكون الضحية مدينة كاملة الى جانب العديد من القرى المجاورة لها، كما حدث لمدينتي “عنة” و”راوة” اللتين اغرقتهما كلياً او جزئياً بحيرة خزان سد حديثة في اعالي الفرات عند انشاء سد حديثة في الثمانينات وهُجّر السكان الى مناطق أخرى. وهذه حقيقة حدثت هنا، وهي لا تختلف عن ما فعلته كثير من السدود الكبرى في العالم في مختلف القارات. لذلك فإن المنظمات الدولية، ومنها البنك الدولي، قد تخلت نهائياً عن تمويل تلك المشاريع وخاصة السدود الكبرى بسبب مضارّها على المديين المتوسط والطويل وهي مضار تفوق الفوائد المباشرة والآنية للسدود عند انشائها.
ولكي يكون الموضوع مباشراً فلنتحدث عن مشروع سد مكحول المقترح كنموذج للطريقة العشوائية التي يتعامل بها بعض المسؤولين مع الثروة الوطنية، سواءً الثروة المائية او المالية. انا أعتقد أنهم في هذا الأمر يتخلون عن مهامهم في حماية المصالح العليا للبلاد، وأتمنى ان يكون ذلك جهلاً لا عمداً.
على سبيل المثال فوجئ المراقبون بالإعلان عن قرار بانشاء سد مكحول باعتباره اولوية لدى وزارة الموارد المائية. وهذا غير صحيح لأن اولويات الوزارة وتوقيتاتها الزمنية وكلفها معروفة ومحددة في وثيقة الدراسة الإستراتيجية للمياه والأراضي المنجزة لصالح الوزارة. وبما ان المسؤولين في الوزارة يشيرون الى تلك الإستراتيجية في كل صغيرة وكبيرة. فلماذ يتم إغفال ان الستراتيجية ألغت فكرة مشروع سد مكحول بالأصل؟
إن ما جاء في وثائق الاستراتيجية صحيح ويؤكد صحة القرارات السابقة على يد أكثر من وزير سابق بل ومنذ أربعينات القرن الماضي. لهذا يصح الإعتقاد بأن القرار بالشروع بإنشاء السد كان ارتجالياً وعشوائياً وخارج سياقات العمل المعروفة. ولحد لحظة الكتابة هذه لم يُقدّم اي تبرير علمي او تقرير مهني محايد مكتوب يقترح او يزكي إعادة الإعتبار لمشروع تم الغاؤه مراراً في فترات سابقة. ولا يكفي قيام احدى صفحات الفيسبوك في نشر مقطع فيديوي (Animation) يعرض صوراً متخيلة للسد في حال انشائه تظهر فيها الحالة “كمرة وربيع”، لا تهجير ولا تعويضات ولا مشاكل فنية وذوبان الطبقات الجيولوجية ولا إغراق 200 موقع أثري بعضها مدرج على لا ئحة التراث العالمي، ولا إشارة الى الغاء المشروع في العهود السابقة وغير ذلك.
من الغرابة أيضاً مصادرة رأي الفريق المسؤول عن تطوير ومتابعة تنفيذ استراتيجة المياه والاراضي حتى 2035. فهذا الفريق ما يزال، حسب معلوماتي، موجوداً في وزارة الموارد المائية، فلماذ لا يتفضلون بحسم الأمر ويعلنون بأن الاستراتيجية التي اشرفوا على انجازها كانت خاطئة مثلاً بشأن سد مكحول ويتحملون المسؤولية المهنية عن ذلك؟
لننظر الى الموضوع من زوايا أخرى أولها المساحات التي سيغمرها السد في حال إنشائه. ابتداءً سأترك أمر المواقع الأثرية التي ستغمر وتدمر الى وزارة الثقافة. فهي الوزارة القطاعية المسؤولة عن حماية الآثار والمواقع بحكم الوظيفة، وهي ايضاً مسؤولة عن الإجابة على تساؤلات واعتراضات اليونسكو على انشاء السد وخطورته على التراث الإنساني. وشخصياً أعتقد بأن الوزارة بقيادتها الحالية لن تغامر في الإخلال بالأمانة المعلقة على دورها في حماية المواقع والآثار تحت أي ظرف.
في هذا الاطار يتوقع ان تغمر مياه السد في حال امتلائه ما يقرب من 80 ألف دونم. هذه الأراضي ستخرج من الخدمة برغم انها من الأراضي الخصبة والمستغلة غالباً حالياً. لإلقاء المزيد من الضوء على موضوعة المساحات المغمورة التي أغرقت وأخرجت من الخدمة نتيجة للسدود الكبرى هو سد دوكان مثلاً. فبحيرة سد دوكان غمرت ما يقرب من 100 ألف دونم من الأراضي الخصبة. وسد دربندخان غمر مساحة 84 ألف دونم. وسد الموصل غمر مساحة 120 ألف دونم... الخ.
فكيف يستقيم المنطق مع إخراج هذه المساحة الكبيرة من الإراضي الخصبة البالغة 80 ألف دونم من الخدمة، وإقتلاع سكانها من أماكنهم وتحويلهم الى نازحين نتيجة لغمر أراضيهم وقراهم بالمياه، بحجة استخدام المياه لإستصلاح أراض جديدة مثلاً، وغالبا ما تكون أقل خصوبة في أماكن أخرى. إن غمر الإراضي يؤدي الى تحويل المواطنين المنتجين المستقلين اقتصادياً الى نازحين ينتظرون التعويضات والمساعدات لترميم حياة جديدة على ركام حياة كانت مستقرة، بكل ما يعنيه ذلك من الأضرار الإجتماعية وتمزيق الأواصر الاسرية.
الموضوع الأكثر وضوحاً لكل ذي بصيرة في النظر الى موضوع تخزين المياه في السد المزمع انشاؤه هو كفاءة الإرواء في العراق. فمعروف ان الري السيحي هو النظام الإروائي السائد في العراق منذ القدم مع استثناءات قليلة. يعرف المختصون قبل غيرهم حقيقة لا يمكن إنكارها وهي ان كفاءة الإرواء لدينا هي أقل من 40%. هذا يعني ان الضائعات من المياه المستغلة في إرواء المزارع والحقول تبلغ 60% على الأقل. وبما أن المعلن بأن سد مكحول المنتظر سيخزن في الحالة القصوى، اي على افتراض الملء التام، كمية مقدارها 3 مليار متر مكعب من المياه، فهذا يعني ان الضائعات من المياه المخزنة عند استخدامها ستكون 1.8 مليار متر مكعب. أي ان المبلغ الهائل المخصص لإنشاء السد والبالغ 3 مليار دولار يهدف فعلياً الى توفير 1.2 مليار متر مكعب من المياه فقط. أين الجدوى والحسابات الإقتصادية في الموضوع؟
الموضوع الثالث هو جيولوجية الموقع المقترح للمشروع. فهي غير صالحة حسب التقارير المتاحة، وإن المغامرة في انشاء السد لا يدرك نتائجها المؤيدون له، فضلاً عن ان وجود عيون الكبريت والقار وما تمثله من خطر محتمل على نوعية المياه المخزنة.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة