بقلم: نزار حيدر
إِنَّ بِناء الدَّولة على الأَرض يسبقهُ بناءَها في عقليَّة الزُّعماء والقادة، فالدَّولةُ عقليَّة أَوَّلاً وإِرادة ثانياً، وهي طريقة تفكير وإِيمان بأُسُسٍ وعملٌ وإِنجازٌ ونَجاحاتٌ يلمسها المُواطن في كُلِّ المفاصلِ والمُؤَسَّسات والخِطابات والخُطط والمشاريع.
فالعقليَّة الطائفيَّة تُعرقل بِناء الدَّولة، والعُنصريَّة كذلك تُعرقل بناءَها، كما أَنَّ التَّمييز بكُلِّ أَشكالهِ يُعرقل بناءَها، ومشاريع العشيرة والأُسرة والمشاريع الحزبيَّة الضيِّقة والمشاريع الكُتلويَّة وعقليَّة الكانتونات، كلَّها تُعرقل بناء الدَّولة.
هيَ إِمَّا أَن تكون [دَولة المُواطنة] أَو لا تُبشِّرني بدولةٍ.
كما انَّ عقليَّة السُّلطة هي الأُخرى تُعرقل بناء الدَّولة، فبينما تنحسر العقليَّة السُّلطويَّة في صندُوقٍ ضيِّقٍ جدّاً، تتَّسع عقليَّة الدَّولة لتشمِلَ آفاق أَرحب وأَشمل وأَوسع.
وللدَّولة أُسُسٌ منها على سبيلِ الفرضِ لا الحَصر:
١/ المُواطنة التي تعني أَن لا يعلو فوقَ الإِنتماءِ والولاءِ للوطن أَيَّ انتماءٍ آخر، فهيَ المفهُوم الوحيد القادر على صهرِ كُلِّ الخلفيَّات في بوتقةٍ واحدةٍ فتجمعَ كُلَّ المُواطنين بعنوانِ الوطن بغضِّ النَّظر عن الخلفيَّة بكُلِّ أَشكالِها.
والمُواطنةُ تتجلَّى على أَرضِ الواقع عندما تكونُ المِعيار الأَوَّل في التَّمييزِ على أَساسِ الخِبرة والكفاءة والتَّجربة والإِختصاص والنَّزاهة للحصُولِ على الفُرصةِ وعلى كُلِّ المُستويات، ليتحقَّقَ مبدأ [تكافُؤ الفُرص] أَمامَ كُلِّ المُواطنينَ.
٢/ الدُّستور فهو العقد الإِجتماعي الذي يُنظِّم العلاقات بينَ الجميع على قاعدةِ الحقُوق والواجِبات، في مُعادلةٍ دقيقةٍ وصفها فأَحسنَ وصفَها أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقَولهِ {فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ}.
يجبُ على الجميع إِحترام الدُّستور مهما اختلفنا مع بعضِ موادِّهِ مثلاً فلقد حدَّدَ النَّصُّ أَدوات وسِياقات للتَّغييرِ والتَّعديلِ لا ينبغي لأَحدٍ تجاوزَها أَو تجاوزهِ بذريعةِ وجهةِ نظرٍ ما إِزاء مادَّةٍ ما، وإِلَّا فلم يبقَ معنى لهذا العقدِ الإِجتماعي وسينفرِط!.
٣/ القانُون الذي ينبغي أَن يكونَ فوقَ الجميع، الأَمرُ الذي يتطلَّب إِستقلاليَّة القضاء بشَكلٍ تامٍّ وواضحٍ لا لبسَ فيهِ.
إِنَّ القضاءَ الذي يشترك في [العمليَّة السياسيَّة] أَو يتداخل مع بقيَّة السُّلُطات أَو يتعرَّض للمُضايقاتِ والتَّهديداتِ وتدخُّلاتِ السياسيِّينَ، خاصَّةً الذين يحتمُونَ بالميليشيات، لا يُمكنُ أَن يُحقِّقَ مبدأ القانُون فوقَ الجميع، بل سيكونُ القانُون في هذهِ الحالة في مهبِّ الرِّيح، فإِذا كان كذلكَ فاقرأ على الدَّولةِ السَّلام أَو الفاتِحة بالأَحرى.
وإِنَّ واحدةً من أَهمِّ مفاهيم [القانُون فوقَ الجميع] هو أَن يكونَ القانُون بالفعل الحكَم الذي يفصِلُ في كلِّ النِّزاعات وعلى مُختلفِ المُستويات، وهو المفهُوم الغائِب جُملةً وتفصيلاً.
عندما يكونُ قانون العشيرة حاكماً ويكونُ قانون الإِقتِحامات والغارات المُسلَّحة والتَّهديد بالقُوَّة أَو تجييش الحشُود للإِرعابِ والتَّخويفِ والإِرهابِ، أَو لفرضِ الأَجنداتِ والقناعاتِ، عندما يكُونُ كُلُّ ذلكَ حاكِماً ويكونُ قانُون [المِزاج الدِّيني] حاكماً، وسياسات الإِبتزاز بصناعةِ الملفَّات حاكمةً! فكيفَ يكونُ [القانُون فوقَ الجَميع]؟!.
إِنَّ الدَّولة الحقيقيَّة هي التي يكونُ قانونَها فقط هو الحاكِم، وإِنَّ كُلَّ قانونٍ آخر يخضع لهُ، فوِحدة القانُون حجر الزَّاوية لبناءِ الدَّولة.
٤/ تكافُؤ الفُرص أَمامَ كُلَّ المُواطنين بلا تمييزٍ، بناءً على الكفاءة والقُدرة والإِستعدادات الذهنيَّة والجسديَّة والخِبرة.
إِنَّ إِحتكار الفُرص أَو إِقصاء مُواطن عن أَيَّةِ فُرصةٍ يراها مُناسبةً لهُ في إِطارِ الدُّستور والقانون وهو قادرٌ على خَوضِ غِمارِ المُنافسةِ عليها مع الآخرين، إِقصاءهُ بسببِ اللَّون أَو الجِنس أَو الدِّين أَو المذهب أَو العشيرة أَو الإِثنيَّة أَو الخلفيَّة السياسيَّة أَو الحزبيَّة أَو الفكريَّة، يتعارض مع مفهُوم بِناء الدَّولة التي تُشاد على الكفاءات والخِبرات الخلَّاقة وليست الكسُولة والفاشِلة.
وإِنَّ المُحاصصة تُلغي [تكافُؤ الفُرص].
٥/ والدَّولة مُؤَسَّسات الغرضُ منها {جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا} كما حدَّدها أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في عهدهِ للأَشتر لمَّا ولَّاهُ مِصر.
وإِنَّ هذهِ المسؤُوليَّات الأَربع يجب أَن تسيرَ بمشروعٍ مُنسجمٍ جنباً إِلى جنبِ بعضها، فالخللُ في واحدةٍ منها أَو أَكثر، وتسارُعُ واحدةٌ وتأخيرُ أُخرى وتراجُع ثالثة لا يُساهم في بناءِ الدَّولة، لأَنَّ الخلل في التَّوازن يخلُق الظُّلم والذي يدعُو إِلى السَّيفِ بطبيعتهِ كما يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقولهِ {وَالْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى السَّيْفِ} وتالياً ينسِفُ الإِستقرار المُجتمعي وتفرُض الفَوضى نفسها.
-الأَمن الإِقتصادي والمالي، من خلالِ المشاريع الماليَّة والإِقتصاديَّة والإِستثماريَّة والتجاريَّة المُستقِرَّة الآمِنة والنَّامية، لخلقِ كُلِّ الأَسباب والمُقوِّمات اللَّازمة ليُحقِّق المُواطن حياةً كريمةً لهُ ولأُسرتهِ من خلالِ سكنٍ مُناسب وعملٍ يضمن لهُ دخَلاً مُناسباً وظروفٍ معيشيَّةٍ تُحقِّق لهُ السَّعادة.
-الأَمن المُجتمعي الذي يتطلَّب حصر السِّلاح [السِّياسي على وجهِ التَّحديد] بيدِ الدَّولة، وتفكيكِ الميليشياتِ التي تُتاجر بالدَّم والسِّيادة والعناوين المُقدَّسة الوهميَّة لإِضفاء الشرعيَّة على جرائمِها!.
-التَّربية والتَّعليم الذي يُمثِّل العمُود الفقري للدَّولة باعتبارِ أَنَّ المُواطن المُتعلِّم هو رأس المال الحقيقي لكُلِّ بناءٍ مرجُوٍّ.
-البِناء والإِعمار، لتهيئةِ الأَرضيَّة المُناسبة ليعيشَ المُواطن في بيئةٍ سليمةٍ وراقيةٍ ونظيفةٍ تُساهم في صناعةِ الإِستقرار النَّفسي وهدُوء الأَعصاب وراحة البال والتَّوازُن في الشخصيَّة.
٦/ السِّيادة التي قاعدتها المصالح العُليا للبلاد وحمايةِ الأَمن القومي والتَّوازُن في العلاقاتِ الخارجيَّة وعدَم السَّماح لأَيٍّ كانَ من [الغُرباء] أَن يتدخَّل في شؤُون الدَّولة.
٧/ المسؤُوليَّة جوهر الدَّولة، فإِذا ضاعت أَو تمَّ تصفيرها بينَ الفَينةِ والأُخرى فلا يُمكنُ أَن نتصوَّر بناء الدَّولة أَبداً، لأَنَّ الدَّولة مسؤُوليَّة تتراكم لبِنةً لبِنةً حتَّى تكتمل، ولا تحميها من الإِنهيار إِلَّا المسؤُوليَّة التي يتحمَّلها المسؤُول إِذا فشلَ من دونِ تهرُّب أَو تبرير أَو أَيَّ شكلٍ من أَشكال البحث عن كبشِ فِداء.
يقُولُ تعالى مُحذِّراً {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيٓـَٔةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِۦ بَرِيٓـًٔا فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
وللمسؤُوليَّةِ أَدواتٌ منها؛ حريَّة التَّعبير والرَّقابة والمُحاسبة والنَّقد وحريَّة الوصُول إِلى المعلُومةِ وإِستقلاليَّة السُّلطةِ الرَّابعة وحمايتَها ورمي المُقصِّر خلفَ القُضبان ليُواجهَ العدالة.
وكُلُّها تُصفِّرها ثقافة صناعة وعِبادة الأَصنام إِذا ما تحكَّمت بالمُجتمع.