- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
نحو التغيير.. ترتيبات المنطقة قادمة والعراق مركزها
بقلم: د. ياسين البكري
شهدت منطقة الشرق الأوسط حروب متسلسلة، ولعبت التوازنات الدولية الكثير على أرضها، لكن يبدو ان هناك متغيرات على الأرض وأفكار جديدة في رؤوس صناع القرار.
لا احد يستطيع التنبوء بما سيجري، لكن السكة وضعت ويجري العمل على ترتيباتها وتنتظر أن تلتحق قطارات المنطقة تباعاً الى المسار.
تؤشر الحراكات الدوبلوماسية الدولية والإقليمية، ان رياح السياسة غيرت توجهاتها، من لا يشعر بذلك!؟.
من المربك للتحليل ان السياقات تتغير بسرعة، لكنها طبيعة السياسة حين تختلف الأهداف والمحفزات والدوافع، والأهم حين يتغير المستقبل ويرغب أكبر عدد من المتحاربين الموشكين على الغرق ركوب قاربه.
المستقبل ليس لوح نجاة، انه جزيرة الأمل كما ترسمها مخيلة كل المتورطين في بؤرة القتل المتبادل ويشعرون أن الرصاصة القادمة ستقتلهم لا محال، فهل تملك أصابعهم المرتعشة قدرة الإمساك به، ومنع الرصاصة أن تدخل رؤسهم؟!
ذلك سؤال محير وصعب جداً، لكنه بلا شك ليس مستحيلاً على الطرح والملاحقة، وربما هنا يمكن إستخدام عبارة (الضرورة والمستقبل)، كاجابة أولية.
الفوضى الدولية والإقليمية الماضية لها فاعليها بلا شك فليست من فعل السراب، لكن القصة الآن ليست عن الفاعل ومقاضاته ومسألته ولعنه (مع انها مطالبات أخلاقية مهمة)، القصة الأن عن تجاوز مرحلة باتجاه مرحلة دولية وإقليمية أخرى يعاد فيها رسم حدود الصراع دون المساس بالخرائط.
الخرائط ستبقى على ما هي عليه ولن يسمح بتجاوزها لتسقط بعدها كل أساطير التقسيم في المخيال الإعلامي والتداول الوقتي مدفوع الهدف والثمن.
في سياق تحديد إطار الفوضى الماضية أو ما تبدو على إنها مجرد فوضى، وإحصاء الإنفجارات وأثار الصدامات المحسوبة بدقة أو التي حدثت عرضاً، يمكن رصد نقاط التوتر على خارطة الصراع الذي بدى لطوله كأنه عصي على الوقف، أو انه من طبيعة الأشياء.
صورة النتائج تبدو مناسة لجردة الخسائر وتحديد مطالبات المستقبل
اليمن ومساحة الجوع التي تنتظرها، سوريا وركام الأبنية، لبنان وانهيارات الليرة التي قد تفضي لحراكات لا يمكن حساب نتائجها والى أين ستصل، ليبيا وكل الهدر الذي لحق بها وبكل منطقة الشرق الأوسط التي تواجه تحديات مخيفة.
قد تبدو للوهلة الأولى ان جردة الحساب ذهبت للأبنية والمنشأة والأموال دون ذكر لعداد الجثث النائمة بغضب وحسرة تحت أنقاضها، لكن هناك حقيقة مرة وغير أخلاقية، إن القتلى في الصفقات الكبرى ليس لهم مكان في قائمة المستقبل المراد صناعته تحت ضغط الضرورة القصوى؛ هكذا هي قساوة السياسة والحرب.
على خلفية ما تم ذكره، تجري الأن تحركات في الكواليس لوقف مسار دامٍ إمتد عقود لم يخدم مصالح المتحاربين، فكل خطوة للردع كانت تفضي لصِدام مباشر أو بآدوات لعب مراوغة مخاتلة خلفية، لكنها بالنتيجة تستوجب دفع فاتورة حساب.
النفط كان يلبي الجزء الأكبر من حساب المغامرات الملتهبة، والجزء الأخر كان يذهب لإدامة حياة أقرب للكفاف في بعض الدول ودون الإستثمار في التنمية التي اٌجلت لوهم أن النفط سيبقى ماسورة تستجلب أموال بلا تعب، غير ان المستقبل قلب قواعد اللعبة، فالنفط اليوم مدان بجريمة تغيير المناخ، والمستقبل يتسارع نحو بدائل تجعل منه معدن فاقد القيمة بعد سنوات، والتنمية التي وضعت على الرف بدأت أعراض ركنها تظهر في دول عاجزة عن مجاراة التطور السريع.
جردة الحساب السابقة للخسائر لم تتضمن مئات المليارات التي دُفعت ثمن التهور أو سوء التخطيط التي يمكن رصفها كلأتي:
-حرب الثمان ومئات المليارات من طرفي النزاع
-حرب غزو الكويت وكل تداعياتها التي تحسب بمئات المليارات من بنية تحتية وخسائر مباشرة
-حرب غزو العراق التي وصلت كلفتها الأمريكية فقط ترليونات
-مخاض تونس وما تبعه
-متغيرات ليبيا ومئات المليارات
-صراع السلطة والصراع الكوني في سوريا وما خلفه من خسائر بمئات المليارات
-مسلسل التنابز والتطاحن في مصر وتبادل الأدوار الذي خلق حالة خوف وركود
-حرب اليمن واللاعبون بالأصالة والوكالة وما خلفته من محرقة للمليارات
تلك الحروب ما زالت مستمرة باشكال أخرى، وما زال النفط يغذي بعض أوجهها، غير انه بات متعباً من الكلفة العالية ونهاية زمن الوفرة، واذا كان الربع الأخير من القرن العشرين يسمح بذلك على أمل التعويض من الريع القادم، فان معادلة الزمن القادم لن تسمح بذلك.
الأموال التي دفعت للحرب وإدمتها وصناعة أذرع مسلحة ومؤسسات إعلام تنفخ في بالون عظماء تنخرهم الثقوب لم يعد كافياً أو مبرراً لاستمرار اللعبة.
الزمن القادم يواجه أسئلة وتحديات المناح، وارتفاع معدلات السكان، والبطالة، ونضوب الموارد أو الإستغناء عنها.
مع تلك الأسئلة المستقبلية الكونية ومثيلاتها لم يعد مقنعاً التمترس خلف خطاب العظمة الموهوم، وصناعة أعداء، ولم تعد مقنعة سلسلة الهزائم الكبرى التي تروج على انها إنتصارات ولا بد أن يقبل بها المطحون آساً تحت ضغط الخوف من سلطة المخابرات والبوليس السري واقبية الموت وزنازين أجهزة قمع السلطة.
تلك الأسئلة كان سابقاً يمكن تأجيل البحث بها في غرف الماسكين بالسلطة في الشرق المتوسط، غير أن رياح التغيير أتت وأعلنت عن نفسها في الإقتصاد والمجتمع،(الضرورة والمستقبل).
في الإقتصاد الذي أصبح بين خيارين إما تنمية الإنسان والموارد والحفاظ عليها وشطب الجزء الأكبر من موازنات الحروب والتدخل، أو الذهاب نحو كفاف في العمق هو جوع مدقع وما يعقبه من إضطرابات داخلية.
وفي المجتمع الذي ما عاد يقتنع بشعارات العظمة والسيادة والإستقلال بعد أن مسته رؤى العولمة والإنفتاح السيبراني وفتح فضاء الحرية والمقارنة على مصراعيه، وبعد أن طحن الفقر مجتمعات بلدان الشرق الأوسط وهي التي تطفو على بحر موارد أهدرت من أجل نزق صاحب السلطة وفساده وتمتعه وحاشيته وحرمان السواد منه، لذلك تحرك المجتمع من تونس ليمتد على خارطة الشرق الأوسط برمته في رسالة غير مشفرة واضحة بان الخيارات أصبحت ضيقة جداً ولا بد من تغيير المسار.
خلق المشهد السابق الذي استمر لعقود مراجعات كونية لما يجب أن يكون عليه مشهد المستقبل
-أمريكا ما عادت مهتمة جداً بالنفط، الرابط الذي شدها للشرق الأوسط منذ الأربعينيات، دون أن يعني إنها ستدير ظهرها للمنطقة بالكامل، لكن طريقة حضورها وآلية إدارة مصالحها إختلفت.
-السعودية ملت فتح خزائنها على حروب الماضي وهي تفكر ملياً في رؤية السعودية 2030، ومشروع نيوم الذي يحيلها لاقتصاد منتج لا مجرد بائع للنفط سينضب سريعاً.
-إيران المختنقة بالعقوبات وشعارات الثورة العابرة للحدود لم تعد قادرة على المطاولة تحت ضغط مطالب الشعب الجائع للخبز والإنعتاق من قيود يافطة المقاومة، ومطالب تعديل سلوكها الثوري نحو سلوك دولة لتطبيع العلاقات.
-مصر التي تعاني من تضخم السكان وانعدام الموارد والإستقرار
-العراق الذي كان منطقة التجارب في كسر توازنات القوى الإقليمية وتفجير نزعة الهوية
-سوريا التي تعيش الكفاف وتطاحن الإيدولوجيات الوطنية والإقليمة وتجاور قوى الزعامة على العالم والأقليم في خارطة ضيقة جغرافياً إتسعت لحضور المتناقضات من أدناها لأعلاها
-الأردن التي وضعت على جغرافيا قاحلة وجوار ملتهب وترغب بالإنفتاح والتبادلات التجارية.
-روسيا التي ضمنت موطئ قدم مطل على المتوسط وترغب في جني استثماراتها بعيداً عن تصعيد
-الصين التي تتاجر مع الجميع ويحركها هاجس تصريف بضاعتها.
-تركيا التي تعاني من هبوط قيمة الليرة وتذبذبها ومخاوف هجرة الإستثمارات والعقوبات التي قد تطيح بنموها الإقتصادي المبهر، والمطالبة من بعض دول الإقليم تخفيف حدة تيار العثمانية الجديدة.
-إسرائيل، وتلك قصة أخرى في عمق المشهد الشرق أوسطي غير المستقر ومخاوفها من الحروب غير المتكافئة التي مست بشكل أو أخر عوامل تفوقها العسكري تحت ضغط محدودية الجغرافيا.
يتجه المشهد لمسك المستقبل الذي قربه بشكل كبير ركود الإقتصاد الدولي على خلفية جائحة كورونا التي ضربت الإقتصادات بشكل يوضحه تراجع النمو بدرجة أضر بهياكل الإقتصادات الكبرى والريعية على حد سواء.
المتغيرات الكبرى التي واجهها العالم إستدعت مراجعات كبرى لمسار المستقبل بين خياريي، إبقاء مشهد الصراع أو الإنتقال لمشهد أخر.
قاعدة المراجعة تعتمد على أسئلة عدة
هل يمكن تغذية الصراعات من موازنات تجاهلت التنمية؟ هل تحتمل الموارد الناضبة صراعات مفتوحة؟ هل يحتمل الشعب تضحيات أخرى؟ هل يحتمل المستقبل تجاهل تداعيات المناخ والبطالة والانفجارات السكانية وتداعيات كورونا؟ هل هناك قدرة على الإستمرار في الإستثمار في الصراع؟ وما هي مآلاته في ضوء تراجع العوائد والثروة؟ هل يُجدي الإستمرار في السياسات التدخلية أم الأجدى تحويل المسار للسياسات الإنفتاحية والتعاونية؟
مسار التحول بدء بالتبريد المتقن للحرائق، ففي رصد لنقاط الصِدام في الشرق الأوسط للسنتين الماضيتين يمكن ملاحظة ان أكثر من إحتكاك حدث دون أن يفضي لتوسيع لدائرته، بل يلاحظ ان أطرافه كانت حريصة على تطويقه وإبقاء الأمر على مستوى تصعيد محسوب إعلامياً أو ردود أفعال منضبطة عملياتياً بشكل ملفت لا تستدعي رد فعل مقابل، ولنراجع عملية مطار بغداد في بداية يناير 2020، وما أسفرت عنه من خطوط تبريد على عكس المتوقع، فطرفي النزاع اللذين يمثلان محورين متضادين واضحين أكتفيا بضربة ورد فعل محدود، وهي إشارة الى انهما لا يرغبان بتوسيع ساحة الحرب.
مثال أخر، الساحة السورية التي يتواجد فيها على أرض المعركة وسمائها كل المتناقضين والمتلاسنين ولسنوات دون أن يؤدي ذلك الى إنفلات، الأمر الذي يثير الإعجاب والإستغراب أحياناَ مع كل تحذيرات وتنظيرات ان نقطة الحرب العالمية الثالثة ستنطلق من سوريا بسبب هذا الإحتشاد والتجاور لمراكز القوى الدولية والإقليمية والتقاطعات التي بينها.
يجب ان لا ينخدع احد بمقولة ان الحرب قد تندلع بشرارة غير محسوبة، ذلك زمن ولى منذ تجربة القنبلة النووية والحروب بعدها تندلع بقرار واعٍ لا مجال فيه لردود الأفعال المتقابلة غير الرشيدة والتفاعل المتسلسل غير محسوب.
تشير خرائط الصراع في العقود الثلاثة الماضية ان منطقة الشرق الأوسط بؤرتها، وما زالت تلك النقطة الأكثر إحتراراً بملفات متشابكة متداخلة مربكة صعبة الفصل في التأثير والتأثر، وفي محاولة رصد أكثر الحروب تأثيراً على المستويات الإقليمية والدولية يمكن عد حرب إحتلال العراق 2003، أكثرها تداعياً بما خلفته من إرتدادات كبيرة بعد كسر نقطة التوازن الشرق أوسطية.
الثقل الستراتيجي الذي مثله العراق حينها لم يستطع أحد تعويضه، والأهم إنه تحول من نقطة وازنة الى نقطة جذب وتدخل وتداخل للقوى المتنافسة بدوافع المخاوف المتبادلة للاعبين الإقليميين والدوليين وتحول لساحة حرب وتصفية حسابات وضغوط متبادلة.
فهم أهمية العراق سياسياً وثقله المغيب ستراتيجياً والنتائج التي ترتبت على تفكيكه كدولة وازنة مستقرة وما أفرزته من أثار سلبية على اللاعبيين يؤشر لنقطة جديدة في التعاطي مع العراق، والأهم فهم العراق وحكومته للدور الذي يمكن أن يضطلع به لترتيب أوراق الصراع، وتلك نقطة شروع مهمة في رسم سياسة خارجية عراقية لتحويله من منفعل متلقي لحروب الأخرين على أرضه، لفاعل.
عمل العراق على تغير نظرة دول الإقليم لدوره في ضبط إيقاع الصراع، والتأكيد ان بإمكانه أن يصبح جسراً للتلاقي بدل ساحة قتال.
يمكن عد تلك المقولة (الجسر)، مفتاح أساسي للمضي في حلحلة الملفات المتشابكة وامتداداتها الدولية والإقليمية وصولاً لهدف جديد يتحدد بقلب معادلة الصراع لتعاون أو على الأقل تجميد.
التحديات الإقتصادية وفشل التنمية وتحديات السقوط في ثورات داخلية نتيجة النقمة الشعبية كانت ممهداً للدفع بالقبول بمراجعات لمسار العلاقات في المنطقة، وهو ما أستوعبت دول الإقليم غاياته وفهمت مقدماته وأستثمر ذلك عراقياً في تهيئة مناخ دوبلوماسي لتلاقي الأضداد واقناعهم بالحوارات واللقاءات على أرض بغداد.
الحراك الدوبلوماسي العراقي أنتج لحظات بغدادية مهمة، (مؤتمر قمة بغداد للتعاون والشراكة/ زيارة البابا/ المؤتمر الثلاثي العراقي الاردني المصري / حوارات السعودية إيران)، قد يبدو هذا الحراك العراقي عند البعض إنه عابر، لكن ربطه بكل خلفية.
أقرأ ايضاً
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- التعويض عن التوقيف.. خطوة نحو تطور التشريع الإجرائي