بقلم: نجاح بيعي
كان العالم قد قفى خطوات البابا (فرنيسيس) خطوة بخطوة, منذ أن غادرت قدماه أرض (الفاتيكان) وحطت أرض العراق, في زيارة أقل ما وصفت بأنها تأريخية. تأريخية بالنسبة للجميع, سواء (الفاتيكان أو العالم أو الشرق الأوسط أو العراق أو النجف الأشرف). فكان العالم يرى ويسمع ويتابع بنهم وشغف منقطع النظير, مفاصل وتفاصيل تلك الزيارة, حتى ولج مع البابا ذلك الزقاق النجفيّ الضيق العتيد, ودخلوا معاً الى حيث يقبع في إحدى غرف تلك الدار المتجردة من كل عوالق الدنيا وزخرفها, ذلك الرجل الذي تجاوز التسعين من العمر, وهو ينوء بحمل (إرث) إلهيّ معطاء, عمره أكثر من أربعة عشرة قرنا ً, كأمانة ومسؤولية على كاهله المتعب, ويحطوا الرحال عند أعتابه. أعتاب رجل زاهد و(نور) و(حكيم) و(حليم) و(عظيم) هذا الزمان, ويلتقوا المرجع الأعلى السيد السيستاني (دام ظله).
كان العالم والبابا قد بصروا المعجزة وأدركوها, ونظروا إليها كيف تتشكل وتتحقق أمامهم, بأن الزقاق الضيق, والبيت المتجرد الصغير, والغرفة البسيطة, كن من السعة والرحابة فضمهم ووسعهم جميعاً. بل وأيقنوا بأن الذي كان لم يكن ليحصل, إلا بفضل ذلك العابد (رجل الله) السيد السيستاني, وكأن الحال هنا يفصح عن المقال بأن ـ لا مستحيل هناك في الزقاق الضيّق القصير, وأن الجمل فعلاً ولج من (سم الخياط), فبات السيد المرجع الأعلى قطب ذلك العالم, وما دونه أجرام وكواكب تدور في فلكه, الأمر الذي دفع (الحبر الأعظم) لأن يفصح ويعرب عن ما دار بخلده وأمام الملأ, ويقول مؤمنا ًـ موقنا ً بلا حريجة بأن اللقاء بالسيد السيستاني: (أفادني روحيا ً), وأن هذا اللقاء: (أراح نفسي), في حين كان يجد العالم ويأمل تلك (الفائدة الروحية) و(الراحة النفسية), في شخص (بابا) الكنيسة الكاثوليكية وليس في غيره. فكان حقيقا ً عليهم أن يُذعنوا ويصيخوا السمع له, ولما سيقوله (رجل الله) لهم جميعا ً.
ـ تُرى ماذا همس (رجل الله) للبابا والعالم معا ً؟.
ـ ماذا قال القطب لأفلاكه؟!.
إن سير مجرى الأحداث المأساوية لحقبة ما بعد زوال الديكتاتورية في العراق والمنطقة والعالم, وسيل مواقف المرجعية الدينية العليا الحازمة تجاهها, تُنبأ للقاصي والداني بما قاله السيد (السيستاني) للبابا وللعالم.
كان السيد (السيستاني) قد (همس) إليهم ما كان (يصرخ) به وحيداً بوجه الجميع, منذ أكثر من ثمانية عشرة عاما ً, وهي سني الظلم والإضطهاد والقمع والكبت والتكفير والتهجير والتفجير والتدمير في أشد وأقسى وأعتى حقبة تاريخية مرّ به العراق وشعبه, حتى بُح صوته, وشكا الحال الى (الله) تعالى, مفوّضاً أمره إليه إنه هو السميع البصير.
1ـ همس إليهم بأن ما: (يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الاساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوص ما يعاني منه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة..(1):
ـ إنما هو بسبب النزاع والإحتراب (المحلي ـ في العراق) من أجل السلطة والنفوذ لا غير: (لا يوجد في العراق صراع طائفي بين ابنائه من الشيعة والسنة، بل توجد أزمة سياسية..للحصول على مكاسب معينة، ويضاف الى ذلك ممارسات التكفيريين..)(2). وبسبب النزاع والإحتراب أيضا ً(الإقليمي ـ في المنطقة) من أجل السلطة والنفوذ كذلك: (..وقد زادوا من جهودهم في الآونة الأخيرة بعد تصاعد الصراعات السياسية في المنطقة واشتداد النزاع على السلطة و النفوذ فيها..)(3). وأيضا ً بسبب السلطة والنفوذ وتمددهما الذي كان وراء دفع أطراف (دولية) لتقديم الإسناد المالي واللوجستي لعصابات (داعش): (التمدّد لعصابات داعش و(أمثالها)..في مناطق معينة من العراق وما يجاورها من بعض الدول الأخرى، مع توفّر دلائل واضحة على تقديم التسهيلات والإسناد مالياً ولوجستياً لهذه العصابات من جهاتٍ وأطراف إقليمية وربّما دولية..)(4). كون تلك الأطراف الإقليمية والدولية لا تلاحظ في الأساس إلا (منافعها ومصالحها وهي لا تتطابق بالضرورة مع المصلحة العراقية، فليكن هذا في حسبان الجميع)(5).
ـ فبتظافر تلك الأسباب دفعت المرجعية العليا لأن تصرخ بوجه جميع الأطراف المعنية (المحلية والإقليمية والدولية) متحدية ما يملكون من قوة وسلطة ونفوذ, وأساليب مكر وخديعة ففضحت تدخل الأطراف (الإقليمية والدولية) بالشأن العراقي الداخلي, الذي يقابله تخادم الأطراف (المحلية) مع أجنداتهم ومشاريعهم الخبيثة, متمثلة بالطبقة سياسية التي تُمسك بزمام السلطة والنفوذ, قائلة: (وليس لأيّ شخص أو مجموعة أو جهة بتوجه معيّن أو أيّ طرف إقليمي أو دولي أن يُصادر إرادة العراقيّين في ذلك ويفرض رأيه عليهم)(6).
2ـ همس إليهم بأن دور رجال (الإيمان بالله تعالى) ونخبه من الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في العالم, لا يقف عند اللجأ الى الله, والإكتفاء بالدعاء وإقامة الصلوات في الهواء الطلق, وإنما يكمل ذلك بالنزول الى الميدان في مواجهة التحديات الكبيرة والخطيرة والحد من المآسي التي تواجه الإنسانية جمعاء, وفي حثّ القوى العظمى المتحكمة في العالم على تغليب العقل والحكمة, ونبذ الحرب والتوسع لمصالحها على حساب الشعوب المستضعفة, وفي تظافر الجهود لترسيخ قيم التعايش السلمي والتضامن الإنساني وتثبيتها في كل المجتمعات دول العالم: (الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي، وما هو المؤمل منها من حثّ الأطراف المعنيّة ـ ولا سيما في القوى العظمى ـ على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة، كما أكّد على أهمية تضافر الجهود لتثبيت قيم التآلف والتعايش السلمي والتضامن الانساني في كل المجتمعات، مبنياً على رعاية الحقوق والإحترام المتبادل بين أتباع مختلف الأديان والإتجاهات الفكرية)(7). فالمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف إنما أطلقت فتوى الدفاع المقدسة لقتال داعش واقتحمت الميدان, بعد أن لجأت الى الله تعالى واستنزلت النصر المؤزر منه (عزوجل): (إنّ طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي..)(8).
3ـ همس إليهم بأن العراق اليوم لم يزل قلب العالم النابض, تأريخا ً ومجدا ً وشعبا ً يتحلى بالمحامد الكريمة بمختلف إنتماءاته كما كان منذ الأزل: (ونوّه سماحته بمكانة العراق وتاريخه المجيد وبمحامد شعبه الكريم بمختلف انتماءاته)(9). وأن (السلام عليك وعلى ضجيعيك آدم ونوح)(10) تُشير بوضوح الى أن (البنوّة) و(الأخوة) الحقيقية إنما مبدؤها (النجف ـ آدم عليه السلام) كما معادها اليها, وليس مدينة أور ـ إبراهيم عليه السلام (إننا جميعا ً أخوة). وأن (الناس صنفان: إما أخ لك بالدين أو نظير لك في الخلق) مبدأ من مبادئ التعايش السلمي والتضامن الإنساني لأمير المؤمنين (علي عليه السلام), تتعدى لتستوعب عبارة (كلنا أبناء إبراهيم) للأديان الثلاث كلية, وهو مبدأ ناظر الى أن البشرية جمعاء هم أبناء (آدم) عليه السلام بالفعل, سواء كانوا مؤمنين بـ(الله) أوغير مؤمنين به, وهي رسالة ضامنة لحياة وكرامة البشرية جميعا ً, وليس بخصوص دين دون غيره أو طائفة دون غيرها أو مذهب دون غيره. فمبدأ: (الناس صنفان: إما أخ لك بالدين أو نظير لك في الخلق), تحقيق لآدمية (آدم) الإلهيّة الشاملة والمستوعبة لإبراهيمية (إبراهيم) مما لا يخفى.
4ـ همس إليهم بأن الأزمة الراهنة التي يعيشها العراق اليوم, لا ينفك من قيدها ولا يمكن أن يتحرر من ربقتها إلا بتعاون الجميع. والجميع هنا هم الدول الكبرى والدول الإقليمية معا ً: (وأبدى أمله بأن يتجاوز محنته الراهنة في وقت غير بعيد)(11). كما أن خلاص العراق من أزمته الراهنة وتجاوزه لها, هو بالحقيقة خلاص للمنطقة ككل (إن لم يكن العالم معه) من المآسي والويلات المُدمرة. فـ(التدخلات الخارجية المُتقابلة) في شأن العراق, التي حولته الى ساحة صراع وتصفية حسابات بينهم, ولم يرقبوا فيه إلا ً ولا ذمة, ويكون شعب العراق بها هو الخاسر الأكبر دائما ً, انعكس وينعكس سلبا ً على جميع شعوب بلدان المنطقة. ولم يكن ذلك ليحصل لولا (تناغم وتخادم) العامل (المحلي) المتمثل بجميع القوى السياسية الفاعلة في الساحة العراقية الغاطسة بالفساد والأجندات الخارجية. ونظرا ً لاستحكام دوائر العوامل الثلاث (الدولي والإقليمي والمحلي) وتداخلها معا ً, يجعل من الأزمة العراقية أزمة مركبة (دولية ـ إقليمية ـ محلية) لم يتحرر منها العراق وشعبه إلا بتظافر جهود الجميع, كونها تشكل كابحا ً وعائقا ً أمام أي جهد إصلاحي يقوم به الشعب العراقي, كبُر ذلك الجهد أم صغُر, في مسيرة معركته الإصلاحية ـ الوطنية: (إنّ معركة الإصلاح التي يخوضها الشعب العراقي الكريم إنما هي معركة وطنية تخصه وحده، والعراقيون هم من يتحملون أعباءها الثقيلة، ولا يجوز السماح بأن يتدخل فيها أي طرف خارجي بأي اتجاه، مع أنّ التدخلات الخارجية المتقابلة تنذر بمخاطر كبيرة، بتحويل البلد الى ساحة للصراع وتصفية الحسابات بين قوى دولية وإقليمية يكون الخاسر الأكبر فيها هو الشعب)(12).
5ـ همس إليهم بأن لا أمن ولا سلام, كما لا إستقرار ولا ازدهار, ولا حياة كريمة عزيزة, لجميع أبناء هذا الوطن ـ العراق, بما في ذلك (المسيحيين) وهم (جزء منّا) والأكراد وهم (إخوتنا) والسُنّة وهم (أنفسنا) وباقي مكونات الشعب العراقي, إلا بدولة موحدة ـ مستقلة ذات سيادة غير منقوصة, تُحترم بها المؤسسات, ويُحترم بها الدستور العراقي, وتلتزم جميع الأطراف (به) نصا ً وروحا ً, ليكون مظلتهم الرئيسية الضامنة لجميع حقوقهم الدستورية كمواطنين. ويُحترم القانون ويُفعّل حتى تُصان به الدولة ومؤسساتها وتُفرض هيبتها على الجميع بلا استثناء: (وأكّد اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية، وأشار الى جانب من الدور الذي قامت به المرجعية الدينية في حمايتهم وسائر الذين نالهم الظلم والأذى في حوادث السنين الماضية، ولا سيما في المدة التي استولى فيها الارهابيون على مساحات شاسعة في عدة محافظات عراقية، ومارسوا فيها أعمالاً اجرامية يندى لها الجبين)(13).
ـ وفي الختام.. هذا ما نمى الى مسمعي من (همسات) هي بالحقيقة (صرخات) وجع أمّة بل أمم وشعوب بأكملها.
ـ هل نمى الى مسمعك إيها القارئ الكريم همس جديد؟!.
ــــــــــــــــــ
ـ(1) (7) (9) (11) (13) بيان مكتب السيد السيستاني بعد لقاءه بـ(البابا فرنسيس) يوم السبت 6/3/ 2021م:
https://www.sistani.org/arabic/statement/26506/
ـ(2) رسالة السيد السيستاني لأمين عام منظمة المؤتمر الاسلامي حول لقاء مكة في 22 رمضان المبارك 1427هـ:
https://www.sistani.org/arabic/statement/1503/
ـ(3) بيان مكتب السيد السيستاني حول الوحدة الاسلامية ونبذ الفتنة الطائفية في 3/2/2007م:
https://www.sistani.org/arabic/statement/1504/
ـ(4) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 29آيار 2015م:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=214
ـ(5) خطبة جمعة كربلاء الثانية 18كانون الأوّل 2015م:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=243
ـ(6) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 1 تشرين الثاني 2019م:
https://alkafeel.net//inspiredfriday/index.php?id=465
ـ(8) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 13حزيران 2014م:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=164
ـ(10) زيارة أمير المؤمنين (ع) ـ كامل الزيارات لأبن قولويه
ـ(12) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 15/11/2019م:
https://www.sistani.org/arabic/archive/26359/
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً