- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ماذا تلا قارئ العراق في زيارة البابا ؟
بقلم: علي الخفاجي
احتلت زيارة البابا إلى العراق مكاناً كبيراً في الأوساط الدينية والإعلامية والسياسية؛ كونها الزيارة الأولى من نوعها، ولأنها لا تخلو من مصالح مختلفة، أو مغازٍ دينية، فبقية الأديان العالمية تشعر أنَّ لها حقاً تأريخياً في شخصية أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ونحن لاننطلق في ذلك من نظرة ضيقة للزيارة فنبخس بها حق الضيف، أو نبالغ في تعظيمه، فالحق إنَّ من يزور العراق هو من يزداد شرفاً بأهله وبآثاره التي تحكي قصص أنبياء وصدّيقين عالميين، سواء ولادة إبراهيم عليه السلام فيه، إلى وطء سيد الأوصياء علي بن أبي طالب عليه السلام أرضه؛ ليجسد عليها أروع المواقف الإنسانية إلى سبط خاتم الرسل وذخر الأنبياء الحسين بن علي عليه السلام الذي سطَّر أروع الملاحم على أرض كربلاء، ولكننا أردنا تحليل بعض السلوكيات التي رافقت أحداث الزيارة في زمنٍ كثُر فيه الحديث عن دور العراق في التأريخ أو غياب دوره أو تمزقه شرَّ ممزَّق، فقد كانت بعض السلوكيات تعكس ثقافة السياسيين المستوردة كما حدث باستقباله في المطار، في الوقت الذي كانت سلوكيات أخرى تظهر وعياً تأريخياً، وسلوكاً دقيقاً لما يجب أن يكون على الصعيدين الدبلوماسي والأخلاقي، فبقيت تلك السلوكيات محافظة على توازنها بعيداً عن منهجي البخس والمبالغة، كاستقبال الضيف من قبل المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني الذي استوعب الأحداث في العقدين الأخيرين بعقل نبويٍّ وحسٍّ وطني على مستوى تعامله مع الشخصيات أو الأنظمة، وتعاطيه مع الحوادث المعقدة ببالغ الحكمة.
وقد أخذ البعض يتساءل عن تفاصيل برنامج زيارة الضيف إلى معقل حضاري ومعلم ديني يقصده أبناء الديانات الكبرى على نحو الاستذكار أو الطقوس، فكان من الطبيعي أن يحيط هذه الخطوة اهتمام كبير وتأويلات كثيرة، فمدينة (أور) تعود إلى العصر البابلي القديم، وبحسب المصادر التأريخية، ومنها رواية (التوراة) أنَّ النبي إبراهيم عليه السلام ولد فيها عام 1900، واختلفت الروايات في ذلك، وعلى العموم أنها تنحصر بين 2324-1850 قبل الميلاد.
وقد اتسمت فقرات برنامج زيارة (أور) بالشمولية، حيث عكست الحقوق التأريخية لممثلي الأديان، بغض النظر عن حقيقتها أو مشروعيتها أو نسخها بالشريعة الخاتمة، فهي بالنتيجة أديان لهم عمق تأريخي، ولها أتباع وطقوس وحقوق.
ومن بين أهم الفقرات التي تضمنت برنامج الزيارة الافتتاح بتلاوة القرآن الكريم، واختيار آيات من سورة إبراهيم، تلاها قارئ العراق (الحاج أسامة الكربلائي).
كان وقع تلك الآيات يحكي واقعاً تاريخياً مقدساً بكل المعايير، يدلُّ على أنَّ القرآن غضٌ لايبليه الزمن، صورت مشهداً مقدساً يتحدث عن فتى غضٍ مسددٍ من السماء، ينطق عن وحي لايخطأ في كلمة أو موقف أو حركة، ينطلق بكلمته سائحاً على وجه البسيطة، يُسمع كلَّ من دبَّ عليها بحنجرة بشرية، ولكن تردد صداها ملائكة السماء وحيتان البحر، ليصل بعد عدة رحلات إلى وادٍ غير ذي زرع ليبني فيه بيتاً يكون حرماً آمناً وقبلة للمؤمنين، ويضع له مناسك ليس فيها من مظاهر الشرك المعلن أو الخفي، ليضم الطائفين والعاكفين والركع السجود، رسم فيها للبراءة والطهارة معالمهما في التطبيق.
تلا القارئ ((ربَّنا إنَّك تعلم مانُخفي ومانُعلن)) حكى فيها إبراهيم عليه السلام عن الخفاء والإعلان في حركته الرسالية، وهو يعلم أنه كما لايستغني عن اللطف الإلهي، فهو لايغيب عن الرقابة الإلهية التي تسدد خطواته، ليقول: إنك تعلم أننا لانريد إلا وجهك الكريم، وذلك قمة التوحيد، ليضيف ((إنَّ الله لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)) ليعرف كلُّ ذي سمع، وعلى طول الأزمان إنَّ الله من وراء القصد، ثم يحمد الله تعالى أنْ وهب له أسباب الامتداد في دعوته ((الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق إنَّ ربي لسميع الدعاء)) ليضمِّن دعاءه المستجاب أن يقيم الصلاة التي تصعد إلى الله على وجهها الأكمل والأتم ((ربِّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء)) ولكي يبلغ هو وابنه إسماعيل مبلغ الكمال والذوبان في الطاعة الإلهية يأتيه الوحي في المنام آمراً فيُعبِّر((قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)) فيجيب الابن دون تردد ((قال يأبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)) فيصطفيه من بين الخلق بعد أن يكون مسلِّماً للأمر الإلهي ((ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنَّه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمتُ لربِّ العالمين)) فكان أبو الإسلام ((هو سمّاكم المسلمين من قبل)) وأول المسلمين ((ماكان إبراهيم يهودياً ولانصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً)) ولتكون أجيال الموحدين أبناءه ((ملّة أبيكم إبراهيم)) ويكفي عزاً وكرامة أن يسلِّم عليه ربُّ العزة والجلالة سلاماً أبدياً ((سلامٌ على إبراهيم)).
إن تلاوة تلك الآيات كأهمِّ فقرة من بين الفقرات كانت اختياراً موفقاً وحسناً يُنبئ أنَّ في العراق عقولاً ظلمها الساسة والطواغيت ولم تُستثمر، ولو أتيح لها لنهضت ببلد الحضارات إلى مصاف الأمم، وهي ليست غافلة عن دورها التأريخي، كما أنَّ فيه حناجر شجية يكفي لأنْ يكون بعضها أنموذجاً يقتدي به الآخرون في توظيف الأداء لمحتوى النصوص، كما كان قارئ العراق الذي ماحلَّ في مجلس ليتلو به من الكتاب العزيز آية إلا وقام عنه تاركاً الناس تردد ماتلاه.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟