بقلم: محمد صالح صدقيان
« جئتكم حاجا » قالها بابا الفاتيكان البابا فرنسيس ، قبل ان تطأ قدماه الاراضي العراقية في زيارة هي الاولى من نوعها في تاريخ العراق وفي تاريخ الفاتيكان على حد سواء .
قال « أتيتكم حاجا تائبا لكي ألتمس من الرب المغفرة والمصالحة بعد سني الحرب والارهاب » . بهذه العبارة لخص قداسة البابا اهداف زيارته « الروحية » للعراق ؛ وكانه حمل على كتفه - كما حمل الصليب - هموم العراقيين وهم يواجهون ضغوط الحرب المدمرة والتطرف والتشريد والارهاب الذي قاده تنظيم داعش الارهابي وظلاميته اللانسانية .
ان البابا فرنسيس كان شجاعا عندما قرر زيارة العراق وفق برنامج قاده اضافة الى العاصمة بغداد ؛ مدينة النجف الاشرف التي تحتضن مرقد صاحب « العدالة الانسانية » على بن ابي طالب ومدينة « ابو الانبياء » ابراهيم الخليل عليه السلام اضافة الى مدينة اربيل ونينوى الجريحة.
بلا ادنى شك ان الزيارة كانت موفقة ومهمة وتاريخية بكل المقاييس . فقد استطاعت ان تدعم الجهود المبذولة لاعادة بناء العراق ومدنه المختلفة بعد مرحلة مواجهة الارهاب والتطرف والتكفير بكل انواعه من اجل ان يعيش العراقيون بكل قومياتهم واديانهم ومذاهبهم في هذا البلد الذي انهكته الحروب والصراعات والفتن منذ اكثر من خمسة عقود عجاف.
ان المواضيع التي تم بحثها بين الزعيمين الدينيين البابا فرنسيس والامام السيد علي السيستاني - كما ذكرها بيان مكتب المرجع – تطرقت الى مجالات في غاية الاهمية ، وهي لاتخص العراق والعراقيين ؛ كما انها لا تخص اتباع مدرسة اهل البيت ؛ فحسب وانما تشمل المجتمع الدولي بأسره ، الذي يعاني من الامراض الاجتماعية والسياسية والامنية والعنصرية.
لقد تدارس الزعيمان الروحيان قضايا الفقر ؛ والقهر ؛ والاضطهاد الديني والفكري ؛ وكبت الحريات الاساسية ؛ وغياب العدالة الاجتماعية ؛ في الوقت الذي اعربا عن استنكارهما للحروب العبثية واعمال العنف وعمليات التهجير القسري ؛ والحصار الاقتصادي الظالم الذي تمارسه الدول المستبدة ؛ والاستهتار بإرادة الشعب الفلسطيني في الاراضي الفلسطينية المحتلة.
الزعيمان دعيا الى الالتزام بالقيم الاخلاقية الدينية والروحية للحد من المأسي لتثبيت قيم التآلف ؛ والتعايش السلمي ؛ والتضامن الانساني ؛ ورعاية الحقوق ؛ والاحترام المتبادل بين مختلف الاديان والاتجاهات الفكرية.
من حق العراقيين ان يفخروا بهذه الزيارة التي ركزت على هذه المبادىء والتي تستحق ان تكون « خارطة طريق » وبرنامج عمل لسعادة البشرية والانسانية المعذبة. ومن حقهم ان يعتزوا بمرجعهم الذي طرح هذه الافكار وتداولها مع بابا الفاتيكان . انها قمة روحية بامتياز . قمة لم تحدث سابقا وربما لن تتكرر.
صحيح ان الزيارة كانت لدعم المسيحيين العراقيين الذين واجهوا ضغوطا وتنكيلا وتشريدا من قبل ارهاب داعش وظلاميته ؛ لكن الصحيح ايضا انها جاءت لترسم اطارا جديدا يعزز حالة التعايش السلمي في هذا البلد الذي أنهكته الحروب والازمات.
ان زيارة البابا للمرجع الديني الامام السيد على السيستاني لم تكن زيارة خص بها مرجعا من مراجع مدرسة اهل البيت عليهم السلام وانما هي زيارة لمرجع كل العراقيين الذي دافع عنهم بعيدا عن الدين والمذهب والطائفة والقومية.
من المناسب جدا استثمار شعوب المنطقة هذه الزيارة وآفاقها الروحانية لتجاوز المشاكل والضغوط المتعددة التي خلقتها الظروف غير المناسبة التي واجهتها وتواجهها شعوب ودول المنطقة والعالم من ظلم جائر ؛ وحصار اقتصادي ؛ وتخبط سياسي ؛ ومشاكل أمنية ؛ ومشاكل اقتصادية.
ان المشهد السياسي في المنطقة بما فيه الحاكم والمحكوم ؛ احزاب وجماعات ؛ شعوب وقبائل بحاجة الى « صحوة ضمير » لتصحيح اتجاه البوصلة وتغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية والحزبية والفئوية والقومية من اجل اسعاد الانسان وتمكينه من العيش بسلام في بلده والتمتع بثروات بلاده في حالة من الامن والامان والاستقرار . ولا يجوز ان يستمر الانسان في بلداننا يخشى اليوم الاخر ؛ وهو يفكر في ترك بلده بسبب « الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات » .
ان هذه البلدان التي اكرمها الله بالتنوع الفكري والثقافي والاقتصادي ؛ وجعلها مهد الحضارات ومولد الانبياء يجب ان تعي شعوبها المسؤولية في اعادة حضارتها ورقيها لتكون «خير امة اخرجت للناس».
لا أريد ان اركز مفاهيم مثالية لكنه الواقع . فنحن نعيش في منطقة تجعل البابا يقول بوضوح « جئتكم حاجا » وذهب الى مدينة « العدالة الانسانية » قبل ان يحج الى بيت « ابو الانبياء » . هذا فخر واعتزاز لكل العراقيين اينما كانوا . كما انه فخر واعتزاز لكل المعذبين والمشردين الذين يتطلعون للعزة والكرامة والشموخ.