- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
"ريتز بغداد"... قسوة الفساد العراقي
بقلم:مصطفى فحص
منذ عدة شهور أطلق نشطاء عراقيون تسمية افتراضية عرفت بـ"ريتز بغداد" على قصر الرحاب أو القصر النهاية، الذي يقال إنه تحول إلى معتقل للفاسدين الذين تم توقيفهم بموجب قرار لحكومة مصطفى الكاظمي في تنفيذ عملية مكافحة للفساد، فقد شبّه النشطاء قرار الكاظمي بقرار الحكومة السعودية التي قامت باعتقال كبار رؤوس الفساد في المملكة ووضعتهم في إقامة جبرية في فندق الريتز في العاصمة الرياض.
الفرق الموضوعي بين ما حدث في ريتز الرياض ويحدث في قصر النهاية "ريتز بغداد"، أن في الرياض سلطة مستقرة متينة تملك كافة آليات اتخاذ القرار وتنفيذه، لذلك تمكنت من الإطاحة مباشرة برؤوس كبيرة كان من المستحيل سابقا التعرض لها أو محاسبتها، ولكن في بغداد فإن الكاظمي الذي يتجنب حتى الآن مواجهة الرؤوس الكبيرة، إلا أنه نجح في اعتقال أدواتها، وهذه خطوة بناءة في طريق تفكيك البنية التحتية للفساد في العراق، الذي تحول على مدى 17 سنة إلى عمل مؤسساتي يمكن وصفه بالأسطوري، وبات يحتاج إلى تفكيك هذه المؤسسة من القاعدة إلى رأس الهرم أو رؤوس الأهرام المتعددة بنت دويلات متشابكة المصالح على حساب مصالح الدولة.
الحديث عن الفساد في العراق أسطوري يتجاوز المنطق والمتخيل، ويفرض على من يتابع حركته وحجمه وتداعياته تجاوز التعريف الحالي له في العراق "بالدولة العميقة" باعتبارها المتهم الأول في السيطرة على مفاصل صنع القرار وتتحكم بالثروات الوطنية، فالعلاقة بين أصحاب القرار والدولة العراقية تمر بأزمة بنيوية تتصل بفكرة الانتماء إلى العراق، الذي تحول سنة 1921 إلى كيان جيو-عقائدي عرف بجمهورية العراق.
في كتابه الأخير تحت عنوان "في القسوة" يقول كنعان مكية إن "هذا المصطلح الجغرافي كان قد ركن جانبا طوال قرون مضت وتحول في القرن العشرين إلى اسم لكيان سياسي جديد لا سوابق له وبذلك يمكن تسميته "هوية متخيلة"، والهوية المتخيلة ليست وهما، بل هي بوتقة من المشاعر المعقدة التي قد تصبح مع الزمن حقيقة سياسية جديدة على أرض الواقع"، ولكن الأزمة أن بعد قرن على هذا التشكل، أن من يملك القرار في هذا الكيان يعبر عن عمق هذه الأزمة في الهوية والانتماء، لأنه يعاني أصلا أزمة في متخيله لهذا الكيان في مئويته الأولى.
ينقل أحد الثقات حديثا جرى بين قاض عراقي مع أحد ممثلي أحزاب الإسلام السياسي الشيعي حول الفساد داخل البيت السياسي الشيعي والبيوتات الأخرى الكردية والسنية، في ذلك الحوار يسأل القاضي ضيفه السياسي الإسلامي عن أملاك حزبه بعد 10 سنوات على تجربتهم في السلطة، بأن تنظيمه وحزبه وكل عملهم السياسي وانجازاتهم لا تستدعي أن يمتلكوا ميزانية تتجاوز 200 مليون دولار، بينما ثروتهم تقترب من 4 مليار دولار.
السياسي الإسلامي اعتبر هذه الأموال حصانة للحزب في مواجهة مؤامرة تعد عاجلا أو آجلا من أجل إخراجهم من السلطة، وتؤدي إلى طردهم أو هروبهم من العراق مجددا، لذلك لا يريدون تكرار معاناة تجربة سنوات الشتات والغربة، وهم يكدسون هذه الأموال من أجل حماية الأمة مستقبلا، لأن ما تم تجميعه هو لحمايتها مستقبلا وليس فسادا، وهذا يدخل في مفاهيم ومبررات عقائدية مرتبطة بدولة العدل الإلهي التي سيبنيها الإمام الحجة بعد الظهور. يضيف القاضي لمحدثه بأن هذا الحزب الذي استولى على هذا الكم الهائل من الأموال لم يكن يملك بنية تحتية تنظيمية أو اقتصادية للاستفادة منها لذلك قرر نقلها إلى بنوك خارجية تعرضت للإفلاس منذ عدة شهور.
هذا الحديث يعيدني بالذاكرة إلى حوار جرى بين رجل الدين اللبناني الراحل هاني فحص في أحد بيوتات المراجع في النجف، في ذلك الحوار سئل هاني فحص عن رأيه في زيارته للعراق فأجاب: كنت في كردستان فرأيت إعمارا لا يخلو من فساد وكأنهم نجحوا في تنظيمه، ولكن من بغداد إلى البصرة لم أر إلا فسادا، وأكمل هاني فحص كلامه: جئتكم من بيروت حيث الفساد يعشعش في كافة مفاصل الدولة، إلا أن الفرق ما بين فسادنا وفسادكم أن اللصوص الكبار في بيروت يملكون كفاءات اقتصادية ومشاريع تسيل تلك الأموال، فهم استثمروا في لبنان وصنعوا دورة اقتصادية داخلية استفادت منها طبقات اجتماعية مختلفة واهتموا في التعليم والترفيه والخدمات، أما في العراق فلا يوجد سوى سراق.
بالعودة إلى كنعان مكية ومتخيله عن الهوية والمكان، تتضح أزمة هذه الطبقة في علاقتها مع العراق وتصرفها كأنها فئة عابرة لا يمكن أن تملك متخيلا وطنيا يساعدها على تحقيق انتمائها، لذلك تبقى غير متأصلة تخلو من جذور هوية صلبة تتعامل مع الدولة بعقلية الغنيمة.
أقرأ ايضاً
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي