- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
عراقية الشعائر الحسينية - الجزء الاول
بقلم: نجاح بيعي
الحديث عن الشعائر الحسينية المقدسة كممارسة (جماهيرية) في الحقبة التأريخية التي تلت فاجعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين (ع) في اليوم (العاشر) من المحرّم عام 61هـ مُباشرة, كالتي نراها اليوم في العراق ومنتشرة في أصقاع الأرض بأعدادها وتنوع مظاهرها, يختلف تماما ً كما ً وكيفا ً عمّا لو تمّ الحديث عنها في مرحلة التأسيس والتأصيل التي سبقت فاجعة طف كربلاء. لإعتقادنا بأن جميع مظاهر الحزن والجزع لدى الأمّة على مقتل سيد الشهداء (ع) والمعروفة بـ(الشعائر الحسينية) إنما ظهرت للوجود بشكل (دفعي) وانبثقت مُباشرة بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) في بيئة (عراقيّة) خالصة, ونشأت وترعرعت في أجواء (شيعيّة ـ عراقية) بحتة.
فالبرغم من أن قضية استشهاد الإمام الحسين (ع) أنما جرى ذكره على ألسن الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء عليهم السلام, وجرت على أيديهم أفعالا ً وأذكارا ً كمواساة له (ع), ولا يُمكننا إغفال أول مأتم أقامه رسول الله (ص وآله) على سبطه الإمام الحسين (ع) حين ولادته وكان الناعي جبرائيل (ع), حتى تم إحصاء وتوثيق (عشرين مأتما ً) أقامها النبيّ (ص وآله) له(1), ولكنها لم تكن على شكل (ممارسة جماعية ـ جماهيرية) في الأمة لتستمر فيها عبر أدوار التاريخ الذي سبق عصر الإسلام.
حيث ورد بأن (ما من نبيّ إلا وقد زار كربلا) بل جميع الأديان السابقة وصولا ً الى البدايات الأولى لوجود الإنسان على الأرض, حيث نبيّ الله آدم (ع) كما في بعض الروايات: (نظر آدم (ع) الى ساق العرش ورأى أسماء الخمسة ولقّنه جبرئيل (ع) أن يقول: يا حميد بحق محمد، ويا عالي بحق علي، ويا فاطر بحق فاطمة، ويا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلما ذكر الحسين (ع) سالت دموعه وخشع قلبه)(2), وفي بعضها (ومن غير مُغالاة) تفصح بأن جريان ذكر فاجعة الطف الأليمة بكربلاء, والتأسيس والتأصيل لأنماط المواساة سبق عالم (النشأة) الحالي الى حيث عالم (الذر) والأنوار الأول مما لا شك في ذلك. ففي عالم الأنوار الذي سبق هذه النشأة, حيث ذكر الشيخ (جعفر التستري) في (خصائصه الحسينية) بأن (القلم واللوح)عقدا أول مجلس حزن على الإمام الحسين (ع)وإن كان التعبير بالمجلس مجازا ً يقول التستري: (محل تقديره حين قدّره الله تعالى وقضاه وكتبه بالقلم على اللوح فحزن عليه القلم واللوح.)(3).
نعم.. لم تكن جميع الشعائر الحسينية الآن إلا ولها جذرٌ قرآني, أو جذرٌ نبويّ مأخوذ (من السُنة النبويّة الشريفة), أو جذرٌ من سيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام يؤصلها قولا ًوفعلاً سواء على المستوى الفردي أوالجماهيري, فهم (عليهم السلام) المحرك الأول لها أو بالأحرى القادح الأول لها في وجدان الأمة, وإلا فالشعائر الحسينية بهذا الكم والكيف لم تأتي من فراغ قط.
لذا ومن هذا المنطلق لا يُمكننا تحصيل القناعة بنظرية التدرج التاريخي المُقترن بتدرج وعي (الأمّة) ومدى إدراكها لحجم فاجعة كربلاء وقتل الإمام الحسين (ع), كسبب وأصل لنشوء وظهور بعض الشعائر الحسينية المتعارفة عليها اليوم. كما لا يُمكننا تحصيل القناعة أيضا ً بأنّ العامل السياسي قد لعب هو الآخر دورا ً في سبب ظهور البعض الآخر من تلك الشعائر الحسينية, مُتمثلة بتوالي أنظمة الحكم المتختلفة باختلاف الحكّام الذين حكموا العراق كـ(الفرس والأتراك) وغيرهم, بذريعة تأثر وتأثير وتلاقح حضارات وثقافات مستلة من تراث أمم ومجتمعات تختلف عن حضارة وثقافة وتراث البيئة العراقية والمجتمع (الشيعي) العراقي خاصة. لأن العامل السياسي إنما كان سببا ً مُباشرا ً أوغير مباشر في إنحسار أو إنفراج مُمارسة تلك الشعائر الحسينية لا في إيجاد وخلق انماط جديدة لمظاهر الشعائر ذاتها عبر التاريخ, حسب طبيعة نظام الحكم والحاكم ومدى إيمانه وقربه من القضية الحسينية, أو نكرانه ونفوره منها, عبر تقييد الحريات الممنوحة ومنعها من قبل أنظمة الحكم والحكام الذين توالوا على حكم البلد(4).
وقبل أن نذكر بعض الأمثلة التي تدعم ما ذهبنا إليه حول (جماهيرية) ممارسة الشعائر الحسينية, علينا أن نثبت بأن لولا الدور الذي اضطلع به النبيّ الأكرم (ص وآله) وأهل بيته عليهم السلام لما كانت هناك ممارسة للشعائر الحسينية على المستوى الفردي أو الجماهيري في الأمة كما نوهنا الى ذلك, ولقد كان دورهم دورا ً عظيما ً في التأسيس والتمهيد وتهيئة الأمّة نفسياً ووجادنياً لما بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) وربطها بالقضية الحسينية على نحو الإنتماء. وقد ذكرت المصادر التاريخية بأن النبيّ الأكرم (ص وآله) هو أول مَن أقام مأتما ً على سيد الشهداء (ع) بعد ولادته, وواصل ذلك (ص وآله) في حياته حتى أحصى العلامة النائيني (عشرين) مأتماً, مما يتطلب حضورا ً(جماهيريا ً) وثقها بأسانيد عديدة من كتب الصحاح والاحاديث لأهل السنة منها: (ستة مآتم في دار أم سلمة, وثلاثة مأتم في دار عائشة, ومأتم في دار زينب بنت جحش, ومأتمين في حشد من الصحابة, ومأتم في داره (ص وآله), ومأتم في دار أمير المؤمنين (ع))(5).
فالنبيّ الأكرم (ص وآله) هو أول مَن أذكى جذوة إحياء الشعائر الحسينية، من حزن وبكاء على الإمام الحسين (ع) وأعطاها الطابع الجماهيري في الممارسة. ويذكر أيضا ً أن أمير المؤمنين (ع) حينما توجه إلى (صفين) فوصل أرض كربلاء وقف عندها ناظرا ً يميناً وشمالاً حتى استعبر قائلا ً: (هذا والله مناخ ركابهم وموضع منيّتهم
ـ فقيل له: يا أمير المؤمنين ما هذا الموضع؟
ـ فقال: هذا كربلاء يقتل فيه قوم يدخلون الجنّة بغير حساب
ثمّ سار وكان الناس لا يعرفون تأويل ما قال حتّى كان من أمر الحسين بن علي (عليه السلام) وأصحابه بالطف ما كان)(6).
وأما الأمثلة (العراقية) حول (جماهيرية) ممارسة الشعائر الحسينية فكثيرة كما يرصده لنا التاريخ منها:
1ـ لعل أول مأتم أقيم بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء كان في (نهاية يوم عاشوراء) ليلة الحادي عشر من المحرم, كان قد أقامه الإمام علي بن الحسين (ع) على مصارع الشهداء في أرض الطف بكربلاء، وكان بحضور أهل بيته ونساء أصحابه.
2ـ بعد ذلك كان الإمام علي بن الحسين (ع) قد ألقى أول خطبة في أهل الكوفة بعد دخول موكب السبايا للمدينة، وتبعته مولاتنا (زينب) عليها السلام وبعدها(أم كلثوم) وبعدها(فاطمة) بنت الإمام الحسين (ع) كما هو المشهور. والتاريخ وصف لنا حال الكوفيين حينها بـ: (وضجّ الناس بالبكاء والعويل ونشر النساء شعورهنّ ووضعن التراب على رؤوسهنّ وخمشن الوجوه ولطمن الخدود ودعون بالويل والثبور وبكى الرجال فلم يُر باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم)(7).
فكانت شعيرة (الخطابة) للإمام زين العابدين (ع) وللحوارء زينب (عليها السلام) وباقي نساء آل النبيّ (ص وآله) قد ثبتت (شعائر) عدّة منها (البكاء والنواح والعويل ونشر الشعور وحف التراب على الرؤوس والإدماء واللطم واللدم حزنا ً وجزعا ًمواساةً لسيد الشهداء (ع). ولم ينفك الإمام علي بن الحسين (ع) من إظهار معالم الحزن والجزع والبكاء على سيد الشهداء (ع) في كل محضر ومحفل وتجمع, وما جرى في الشام وبالخصوص في قصر يزيد لعنه الله تعالى معروف لدى القاصي والداني حيث ثبت (ع) أصول المنبر الحسيني المقدس الأصيل, وألا فهو مجرد أعواد خشب لا غير تتلاعب به أهواء الحاكم وتتراقص عليه أحلام الأدعياء والطغاة.
3ـ وبعد مضي (9) تسعة أيام من فاجعة كربلاء أقام الصحابي (صعصة بن صوحان العبدي) رضوان الله تعالى عليه مأتما ً عند قبر الإمام الحسين (ع). وذلك حينما تحرك بجيشه منطلقا ً من (البحرين) لنصرة الإمام الحسين (ع) والإلتحاق بعسكره, ولكن وبعد وصوله أرض كربلاء بإعجوبة مخترقا ً عيون وجواسيس بني أمية (سمع منادياً من عشيرة بني أسد ينادي قتل الحسين وصحبه، فسألوا عن قبر الحسين عليه السلام فقيل لهم هذا، فانكبوا على تراب القبر يبكون ويضربون بأيديهم على رؤوسهم وصدورهم حزناً وحسرة على استشهاد الحسين عليه السلام ثم رفعوا سيوفهم من أغمادها وضربوا رؤوسهم بالسيوف حتى سالت دمائهم واختلطت بتراب قبر الحسين عليه السلام) وكانت هذه (الحادثة بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام بتسعة أيام)(8).
4ـ وبعد مرور أقل من (3) ثلاث سنوات عن استشهاد الإمام الحسين (ع) أقام (المختار بن أبي عبيدة الثقفي) رضوان الله تعالى عليه أول مجلس عزاء في داره بالكوفة. وقد وردت في المصادر التاريخية إن: (المختار بن عبيد الله الثقفي بعد رجوعه من الحج أتى وسلم على القبر، وقبّل موضعه، وأخذ بالبكاء وقال: يا سيدي، قسماً بجدك وأبيك وأمك الزهراء، وبحق شيعتك وأهل بيتك. قسماً بهؤلاء جميعاً، أن لا أذوق طعاماً طيباً أبداً حتى انتقم من قتلك..)(9).
5ـ ولم تمضي الإيام والسنون حتى كانت الأمّة قد اهتدت وسارت على سكة إقامة الشعائر الحسينية المقدسة, مُطلقة العنان لوجدانها أن يُعبر أصدق تعبير حزنا ً وجزعا ً ومواساة ً للإمام الحسين (ع) وللقضية الحسينية المقدسة. فما بين زائر لقبره الشريف وقارئ وقاص وراثٍ ونادب له عليه السلام غير مبالين لجور الزمان وبطش السلطان معا ً.
6ـ يُروى أن الإمام الصادق (ع) قال لـ(عبدالله بن حمّاد البصريّ) والحادثة بعد سنوات من مقتل الإمام الحسين (ع) سنة 61هـ:
ـ(بلغني أنّ قوماً يأتونه مِن نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساء يَنْدُبْنَه، وذلك في النّصف من شعبان، فمن بين قارىء يقرء، وقاصّ يقصّ، ونادبٍ يندب، وقائل يقول المراثي.
ـ فقال (عبدالله بن حمّاد البصريّ): نعم جُعلتُ فِداك قد شَهدتُ بعض ما تصف
ـ فقال (ع): الحمدُ للهِ الذي جعل في النّاس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عَدؤنا من يطعن عليهم مِن قرابتنا وغيرهم يَهْذؤنهم ويقبّحون ما يصنعون)(10).
فعبارة الإمام (ع) (الحمدُ للهِ الذي جعل في النّاس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا) الإمام (ع) هنا يريد أن يبين لنا بأن القضية (جعلية إلهيّة) وأن الله تعالى شاء أن يكون من (الناس) مَن يقوم بالزيارة على أتمّ وجه ولا تأخذه بالله لومة لائم أبدا ً, وهم يعلمون بأن طريق الحسين (ع) وطريق القضية الحسينية وطريق إقامة الشعائر الحسينية المقدسة طريق معبّد بالدم. وهؤلاء الذين (جعلهم) الله بهم هذه المهمة موجودون في كل آن وعلى مر الأزمان. فهم غرس الله (مغرس شيعته وشيعة ولده) وهم بشارة النبيّ (أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات) وبشارة الإمام الصادق عليه السلام بأنهم أهل لزيارة سيد الشهداء (ع) خاصة وسمّوا لها (وإنّ لها لأهلاً خاصّة قد سمّوا لها، واُعطوها بلا حول منهم ولا قوّة إلاّ ما كان من صنع اللهِ لهم وسعادة حباهم [الله] بها ورحمة ورأفة وتقدّم). كما سيتضح لنا.
ـ إذن.. جميع صور ومظاهر الشعائر الحسينية التي تمارسها جماهير الأمة سواء في العراق أو في باقي البلدان أنما (تفتقت) في العراق وعلى أرض كربلاء ومن عند قبر سيد الشهداء (ع) بعد أن كانت (رتقا ً) في وجدان ونفوس الشيعة والموالين في العراق. فالزيارة والمشي واللطم والتطبير والبكاء والرثاء والقص والندب فضلا ً عن توزيع الماء والشرب والأكل كلها شعائر شعت من طف كربلاء, وتناولتها عاطفة ووجدان الأمّة وباقي الأمم في الأصقاع فأخذت تعبر بالطريقة التي تحبذها وتناسبها حسب موروث وثقافة ذلك البلد وتلك الأمة ولكنها لا تخرج من إطارها العام في الأصل.
لذلك جاء دور الإمام المعصوم (ع) في تسديد وترشيد وتثقيف وصقل الموالين عند إقامتهم وحثهم على إقامة الشعائر الحسينية, بما يضمن عدم الإفراط أو التفريط بها وفي مُمارستها لئلا تخرج الشعائر الحسينية من أطارها الحسيني وهدفها الإلهي وتوجيهها نحو الوجهة الأتم والأكمل. ومن هنا جاءت ضرورة وجود الإمام المعصوم (ع) في الأمة, ودوره في إقرار بعض الممارسات لتكون من (الشعائر الحسينية) مرة, وحث المؤمنين على ترك بعص الأفعال والتصرفات الغير لائقة أحيانا ً, وتسديدهم والدعاء لهم عند إقامتهم الشعائر, وحثهم على الصبر والإستمرار في ممارستها مرات أخرى.
ـ وأمثلة ذلك كثيرة منها:
يتبع ..
ــــــــــــــــ
ـ الهوامش:
ـ(1) كتاب (سيرتنا وسنتنا) للعلامة النائيني
ـ(2) و(3) المقصد الرابع ـ في المجالس المنعقدة لذكر مصيبته والبكاء عليه ـ من كتاب (الخصائص الحسينية) للشيخ (جعفر التستري).
ـ(4) يراجع مقالنا الذي يحمل عنوان (الرقم الخامس ـ أو ـ هل للشيعي العراقي هوية خاصة به؟!) على الرابط التالي:
https://www.kitabat.info/subject.php?id=71768
ـ(5) كتاب سيرتنا وسنتنا للعلامة النائيني
ـ(6) الإرشاد للشيخ المفيد ص 175
ـ(7) لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين العاملي ص205
ـ(8)
ـ شيعة اهل البيت ص71 طبعة بيروت 1966م
ـ يراجع كتاب لم تكن ردة لمحب الدين الطبري الشافعي ص272
ـ ويراجع الرابط التالي:
https://www.aqaed.com/shia/world/bahrain/page/2/
(9) كتاب مجالس المؤمنين للقاضي نورالله التستري
ـ(10) هذأ العدوّ: أهلكهم وفلاناً بلسانه، آذاه واسمعهم ما يكره . وفي بعض النّسخ (يهدرونهم) أي يبطلون دمهم.
ـ كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - الصفحة ٥٣٧/ البحار 101: 73/ الوسائل 14: 599/ المستدرك 10: 251
أقرأ ايضاً
- فزعة عراقية مشرّفة
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة