- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الاقتصاد العراقي.. من يجرؤ على قول الحقيقة؟
بقلم: علي غالب بابان - وزير التخطيط الاسبق
اثار الهبوط الحاد في سعر النفط، مؤخرا، نقاشا مستمرا داخل الطبقة السياسية والحكومية حول قدرة الدولة على توفير رواتب موظفيها ومتقاعديها وانبرى الساسة والنواب لاطلاق تطميناتهم، بان الرواتب لن تمس، فيما حذر اخرون بان الامر خط احمر، ومن الواضح بان كل هؤلاء لم يكلفوا انفسهم عناء التفكير من اين تاتي الدولة بالاموال لتغطية ذلك، ولم يجروا اية حسابات. الجميع يتوسل كسب الشعبية الرخيصة، وان يطلق عليه لقب (وجه الخير) الذي يدافع عن حقوق الموظفين والمتقاعدين وينتصر لهم.
ربما يسألني القارئ: ماذا تريد ان تقول بالضبط، وما الذي تهدف له من هذه السطور؟ بالقطع لسنا في وارد الدعوة للمساس بارزاق العراقيين، وحقهم في العمل، لكننا نكتب عن مشكلة عامة بلغت المرحلة الحرجة الخطرة، وعن مسار خاطئ استمر منذ العام 1958 وحتى الان، وتصاعدت وتيرته حتى بلغت الذروة منذ عام 2003 وحتى الان، حيث تضاعف الجهاز الحكومي ثلاثة اضعاف، وكانت (النكبة الكبرى) عندما الغي (مجلس الاعمار العراقي) المؤسس في العهد الملكي، والذي كان قانونه ينص على تخصيص ثمانين من عائدات النفط لمشاريع الدولة.
ولعل السؤال الذي قد يطرحه البعض حول قدرة الدولة بذلك القانون الغابر على توفير الوظائف للعراقيين الذين يزدادون كل عام.
والجواب سهل جدا فلو قدر لهذه التجربة الرائدة، ان تستمر، لكنا قد وجدنا العراق اليوم في مصاف اغنى وارقى الدول، ولكان العراق يمتلك الاف المصانع ومنظومات الري والتعليم الحديث وشبكات الطرق، ولكان لنا زراعة حديثة تسد بخيراتها احتياجات العراقيين، وتفيض بخيراتها للتصدير، ولوفّرت هذه المشاريع ملايين فرص العمل منذ عام 1958 وحتى الان، ولكان لدينا اقتصاد انتاجي حقيقي وبنية تحتية متطورة ونسبة بطالة في ادنى مستوياتها، ولاصبح العراقي منتجا حقيقيا لا صوريا (كما هو الحال في دواوين الدولة)، حيث قدرت (منظمة يو ان دي بي) انتاجية الموظف العراقي الفعلية بما لا يزيد عن ست عشرة دقيقة، في اليوم الواحد.
بامكاننا ان نتساءل لماذا تعلن الدول الصناعية المتقدمة عن نسب بطالتها وتراقب هذه النسب كل شهر؟
هل تعجز اقتصاديات هذه الدول عن استيعاب وهضم هذه النسب في هياكلها الانتاجية ومؤسساتها العملاقة؟
لماذا لا يخرج علينا احد السياسيين في تلك الدول المتقدمة، ويتقمص دور (وجه الخير)، ويصدر قرار بتعيين كل هؤلاء العاطلين، وهو امر تستطيع تلك الاقتصادات فعله خلال ساعات، وبذلك يحصد هو وحزبه اصوات الملايين.
الجواب على تلك التساؤلات، هو ان قرار تشغيل اي فرد هو قرار مبني على اعتبارات اقتصادية للمؤسسة وللاقتصاد ككل، بمعنى ان انتاجيته يجب ان تفوق الاجر الذي يتقاضاه، وان حشر اي فرد في مؤسسة بدون انتاجية حقيقية له، انما يشكل اضرارا بتلك المؤسسة هذا من جهة.
ومن جهة اخرى فان الدول المتقدمة تراقب اداء اقتصادياتها بدقة وتقيس تعافيها بقدرتها على توليد الوظائف؛ فالاقتصاد الحي الفاعل هو الذي يخلق الفرص الانتاجية الحقيقية (ليس كوظائف الدولة العراقية بالطبع)، والاقتصاد الضعيف يعجز عن خلق الفرص والاعمال.
المسألة ببساطة انك بدل ان تعطي العاطل او المحتاج معونة او راتبا بوظيفة شكلية لا انتاجية فعلية لها، فعليك ان تصنع اداة انتاج له، وبذلك تكون قد انشأت وظيفة جديدة له، واضفت انتاجية للمجتمع، وخلقت قيمة مضافة في الوقت نفسه.
قبل ان يقول العالم الغربي: "اعطه شبكة ولا تعطه سمكة"، بالف واربعمائة سنة، قالها محمد بن عبد الله (نبي هذه الامة عليه واله الصلاة والسلام)، فقد ورد في كتب الصحاح: (عن انس بن مالك ان رجلا من الانصار جاء الى النبي صلى الله عليه واله وسلم، يسأله فقال لك في بيتك شيء، اي ماذا تملك في بيتك قال بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء. قال آتني بهما فاخذهما رسول الله بيده، ثم قال من يشتري هذين فقال رجل انا اخذهما بدرهم، قال من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا، اذهب واحتطب ولا اراك خمسة عشر يوما، فجعل يحتطب، ويبيع، فجاء وقد اصاب عشرة دراهم، فقال اشتر ببعضها طعاما، وببعضها ثوبا، ثم قال هذا خير لك من ان تجيء، والمسألة نكتة "علامة او وصمة" في وجهك يوم القيامة ان المسالة لا تصلح الا لذي فقر مدقع او لذي غرم مفظع او دم موجع) انتهى الحديث.
ما اظن هذا الحديث إلا استراتيجية اقتصادية متكاملة، لمن يتمعن في كلماته.. وحري بالاسلاميين الذين لا يفقهون من امور دينهم شيئا ان يستوعبوها.. كما يجدر بادعياء (الدولة المدنية) الذين يرددون بلا وعي (لا تقحموا الدين في كل شيء)، ان يتاملوا فيها مليا، ليدركوا حقيقة دينهم وشمول منهاج الاسلام لمعضلات الحياة وتحدياتها.
بالعودة الى العراق ومشكلة الموازنة الحالية التي باتت (وجع كل عام) علينا الاقرار ابتداء باننا وصلنا الى طريق مسدود بالفعل، وان مشكلة العراق الاقتصادية هي في المنطقة الحمراء الشديدة الاحمرار، وحتى لو تعافت اسعار النفط في الغد او بعد الغد، او طلع علينا احد (وجوه الخير) ليبشرنا بان رواتب الموظفين مؤمنة، ولا خوف عليها، فان المشكلة (باقية وتتمدد)، واصل المعضلة هو ان الاقتصاد العراقي بات عاجزا تماما عن توليد الوظائف، واذا ما اخترعت الدولة بعض الوظائف في الجهاز الحكومي، فان المشكلة ستكبر وتتفاقم لانها ستعني تضخم النفقات التشغيلية، واتساع مدى الانكشاف والعجز.
ما العلاج اذن؟ لنرجع الى الحديث النبوي، ونتمعن فيه بعمق ونستلهم دروسه وايحاءاته.. بالتاكيد ان كل يوم يمر مع بقاء السياسات الحالية يعني ان العلاج سيصبح اكثر صعوبة.. وقطعا فأن الامر قد يقتضي تدخلا جراحيا، ولا بد من اللجوء الى (مبضع الجراح)، وسيكون هنالك بعض التضحيات او المعاناة المؤقتة والى حين، خصوصا لدى بعض الشرائح الاجتماعية، ولكن هذا الثمن هو اهون بكثير من ترك الامور على ماهي عليه، حيث لن يطول الزمن كثيرا حتى تعجز الدولة تماما عن دفع رواتب موظفيها في الوقت الذي تكون فيه طوابير البطالة قد تحولت الى (مليونيات)، وبدأت الازمة الاقتصادية.. الاجتماعية.. السياسية.. المركبة تلقي بشررها وشظاياها على المجتمع باكمله.
الوصفة واضحة ولا تحتاج الى كثير من التخمين... ولكن من (يجرؤ على قول الحقيقة؟).
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد