حجم النص
بقلم:د.سليم الجصاني جامعة الكوفة أودع المتنبي قصيدته هذه صورا جمة عاشت في انساغ حرم تزدهي فيه اللوحات الفنية المنسوجة بأنامل الخيال, ليعزز مفاهيم القيم والمثل التي غيّبت الأنا وأظهرت الآخر وهو غياب الفرد في ظل علو شأن المجتمع وتماسكه في أحشاء نص استدعت سياقاته مجسات وبراعم أنجبت دوائر صورية تموج بالخيال لتكسب القصيدة معارج تصنفها في مقدمة عيون الشعر العربي لتمتد مع امتداد الإنسان زمانا ومكانا ولتغيب فيها الآنية؛ فالشعر "ليس آنيا وليس يحده زمن محدد بل هو كل الزمان, أو لعله من وجهة نظر تطبيقه يحاول التعبير عن كل زمان", ومن هنا كانت مخيلة المتنبي تسعى إلى رسم صور شعرية تتمدد ليمتد معها الزمن, وهي في الوقت ذاته تروم نقل المكان الشعري المحدد إلى مكان غير محدد ترتبك نظمه وتنهار عناصره أمام خيال شعري خلاق يضيق به مكان محدد فيتوسع نحو كل مكان وزمان, وهو أمر يشير إلى ثقافة عالية اغترف منها الشاعر وراح يقوي بها المعنى الذي يسعى إلى ترسيخه في مستودع المتلقي لينهمها في انساغ ذاكرته بعد أن حولها الشاعر إلى نص مبدع يتحقق بشد أزر المضمون في التواصل والتأثير وهو ما تسعى إليه العملية الفنية. وكثيرة هي الخيالات التي مارت في رحم القصيدة واعتركت في ذهن المتلقي لقوة رسمها وجمال تلوينها فراحت تصاحبها في حله وترحاله كمصاحبة نسمات الصبا وإرهاصات الأيام الجميلة التي يعشيها الإنسان ومن الخيال في القصيدة؛ الذي يرسم اللوحة الأولى قوله: أتوك يجرون الحديد كأنما سروا بجياد مالهن قوائم إذا برقوا إذا لم تعرف البيض منهم ثيابهم من مثلها والعمائم خميس بشرق الأرض والغرب زحفه في أذن الجوزاء منه زمازم تجمع من كل لسن وأمة فما يفهم الحداث بلا التراجم فهذه الأبيات تضم صورة شعرية ملؤها الخيال الذي يصور جيش الأعداء وكأنه محيطات عملاقة من الجيوش التي يغطيها الحديد الصلب فلا يرى الفرسان ولا تبصر الخيل وكأن الدروع الحديدية قد غطت الأرض فلا يلحظ منها مكان فارغ إلا موضع لسيف الدولة لا تقارن مساحته بمساحة الجيش الذي إذا أشرقت الشمس تكسرت خيوطها على حد السيوف الصوارم وتمزقت بأطراف أسنة الرماح ولا منفذ لأشعتها إلى الأرض التي أمسك بها الجيش (الخميس) الذي تموج زحفه من شرق الأرض إلى غربها وكفى بعدو هذا الخميس أن يقضي نحبه بصوت العسكر المرتفع (زمام) نحو أعالي السماء ليطرق مسامع النجوم(أذن الجوزاء). وتتخم الصورة هذه بتبيان الأعداد الكبيرة لأفراد هذا الجيش الذي ضم في جنباته قوميات ولغات وأمم متعددة لا يفهم بعضها الآخر, ولم يجتمعوا إلا لهدف واحد هو قتل سيف الدولة وتمزيق التراب العربي وإسقاط الدولة العربية بقيمها وشجاعتها وبسالتها وموروثها الأخلاقي والفكري، وبعد هذا غير ملوم من يفر من أمام هذا الجيش ليحفظ زهو حياته من الانقطاع وليصون أوصاله من التقطيع على نحو ما أظهر الخيال الصوري المتلاطم لهذا الجيش، وهو خيال أجاد الشاعر نسجه قبل أن ينقلنا إلى اللوحة الثانية التي تظهر تعامل سيف الدولة مع هذا الجيش في قول المتنبي: وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم ضممت جناحيهم على القلب ضمة تموت الخوافي تحتها والقوادم اللوحة الثانية: رسمت شجاعة سيف الدولة في صورة أظهرت القائد ولم تبرز جيشه وكأنه هو وحده الجيش كله؛ وهو خيال تتداخل فيه اللقطات السريعة التي تصور ضرب هامات العدى وتناثر أوصالهم وتمزق قطعة الجيش العملاق التي غطت الأرض وأرعبت سكانها, وضم الجناحين على القلب وانتزاع القلب من تمركزه في صورة شعرية اكتنزت في أحشائها مجازات واستعارات وأدوات بلاغية صوّرت الجيش على هيئة كائن مفترس متمرد بجناحين عملاقين ومخالب مخيفة يدرك ما يريد ويمزق من يريد دون رادع أو وازع, ولكنه هذه المرة هو الذي تمزق وتناثر جناحاه وانتزع قلبه فتحول إلى أوصال مبعثرة وليس هو بالأمر الصعب على ند هو الموت ولا مفر منه إذا كان سيف الدولة هو الموت الذي يقبض أرواح أعدائه فيوردهم الجراح ويرديهم التراب. اللوحة الثالثة: وهي لوحة الاحتفال الذي نسج له من خياله فأودعه صورة العرس في قوله: نثرتهم فوق الأحيدب كله كما نثرت فوق العروس الدراهم تدوس بك الخيل والوكور على الذرى وقد كثرت حول الوكور المطاعم تظن فراخ الفتح أنك زرتها بأماتها وهي العتاق الصلادم فالنصر لابد له من حفل, ولا أجمل من حفل العرس الذي يزهو بالإنسان نحو الحياة وتثبيت أساستها بالاقتران الجميل الذي لا يسعد الزوجين فحسب بل يسعد من يحيط بهما؛ وهذه اللوحة جاءت بخيال شعري امتدت أطرافه على منافذ جبل الأحيدب الذي طل من علو النصر وشموخ القائد ورفعه القيم العربية, لتكون هذه القيم التي انتصرت هي العرس الذي يحتفى به وتتناثر من أجله الدراهم الغالية لأنه أغلى منها, وتقدم له النفوس لأنه أكثر نفاسة من النفوس. ولم يسعد البشر وحدهم بهذا النصر بل الطبيعة كلها راحت تزهو به(الأرض: الأحيدب, والكائنات: فراخ الفتح) وليس القول بأن هذه اللوحة جميلة يزيدها جمالا فوق جمالها وليس أدل من ذلك جمال الصورة وقوتها التي رسمت المعركة بالعرس والأحيدب بالعروس وأجساد الأعداء المضرجة بدماء الهزيمة بالدراهم, ولتكن اللوحة الثالثة هي الكلمة لصورة البطل في اللوحتين بالسابقتين.
أقرأ ايضاً
- الحقيقة ليست في الصورة
- "الى الله.. سفرة الى الله" .. قصيدة ولد فيها الشاعر وسيرهق فيها الرادود
- في قصيدة النثر العربية ... سؤال الهوية