حجم النص
تحقيق: أحمد الهادي لا تغادر ذاكرته تلك الصرخات المكتومة لرفاقه السجناء المغدورين حين كانوا يتكدسون فوقه جثثاً هامدة. هو أيضاً لا ينام، فأزيز الرصاصات التي مرّت قرب رأسه يقضّ مضجعه كل ليلة. وحتى الآن، يفزعه أن يتذكر كيف التصق به دماغ السجين الواقف على شماله بينما تناثرت عليه احشاء السجين الواقف الى يمينه. لم يكن سعيد أنمار هو الناجي الوحيد من مجزرة تنظيم «داعش» بحق نزلاء سجن بادوش صبيحة العاشر من حزيران (يونيو) 2014. فمن تلك المجزرة ذاتها، نجا شاهدنا السجين قاسم حمزة بعد أن القى بنفسه داخل الوادي مع الجثث المتساقطة، وتحامل على جراحه بعد أن عض ساق أحد الموتى، كي لا ينتبه عناصر «داعش» الى انه ما زال حياً. كلاهما، أنمار وحمزة، ظلا يختبئان تحت جثث الضحايا في وادي بادوش طوال الدقائق العصيبة التي استغرقها وقت تنفيذ الإعدامات، وكلاهما زحف على انفراد، ليفلت من الوادي الذي ترقد فيه الآن، جثث 500 سجين عراقي أعدمهم تنظيم «داعش» صبيحة ذلك اليوم. عرض تنظيم «داعش» على مراحل، غالبية المجازر التي ارتكبها ضد العراقيين، بما فيها مجزرة سبايكر التي راح ضحيتها قرابة 1700 أسير أعزل في مدينة تكريت، لكنه حتى الآن لم يعرض صوراً او فيديويات عن الإبادة التي ارتكبها بحق سجناء بادوش، ولم يعترف في بياناته التي يطلقها على مواقعه في الإنترنت بأيٍّ من مجازره تجاه السجناء. يكشف هذا التحقيق من خلال شهادات سبعة ناجين، حراس سجون وشهود عيان وذوي ضحايا سجناء ومصادر حكومية ومدنية، كيف ان أكثر من 940 سجيناً عراقياً من أصل 2700 كانوا مسجونين في بادوش ليلة سقوط الموصل بيد التنظيم، اعدموا على يده، ودفنت جثثهم في مقابر جماعية او تعرضت للتفسخ في اربعة مواقع لم يتمكن كاتب التحقيق من الوصول اليها، لأنها ما زالت تحت سيطرته. ويكشف التحقيق ايضاً، كيف أن الجيش العراقي وحرّاس وزارتَي الداخلية والعدل انسحبوا من محيط السجن وداخله من دون أن يطلقوا رصاصة واحدة؛ تاركين السجناء الذين كانوا بعهدتهم يتكدسون في زنزاناتهم بانتظار ان يقرر مصيرهم تنظيم «داعش». بدأت قصة سجن بادوش، كما يقول السجين الناجي رياض منصور، في الثامنة من مساء يوم 9 حزيران. «ساعتها، انتشرت إشاعات عن انسحاب القوات الأمنية المكلّفة بحماية محيط السجن وبواباته وأبراجه، ثم عرفنا لاحقاً أن ضباط وحراس السجن هربوا هم أيضاً». يؤكد حارس السجن محمد الحيالي أن غالبية حراس السجناء تلقوا اتصالات من ذويهم يطلبون منهم ترك السجن والعودة إلى منازلهم. «بالنسبة إليّ، تلقيت اتصالاً من أخي الأكبر، قال لي فيه إن «داعش» استولت على المدينة وأن الدولة سقطت بالكامل وعلي العودة إلى المنزل فوراً». يعترف الحيالي أنه لم يكن مستعداً للموت من اجل أحد. لهذا تسلّل الى خارج السجن رفقة بعض زملائه. ومثله فعل ايضاً الحارس أحمد عز الدين الذي يؤكد أن عدد الحراس بعد أن خرج قرابة الساعة العاشرة، لم يكن يتعدّى 15 حارساً من قرابة 100 كانوا موجودين داخل السجن قبل المساء. يقول الناطق باسم وزارة العدل حيدر السعدي، إن حراس السجن التابعين للوزارة لم يكن باستطاعتهم حماية السجن والسجناء من الداخل، لأن القوات الأمنية التي كانت تحمي السجن من الخارج اختفت فجأة. كان السجن محمياً قبل الحادث من قوات يناهز عددها الألف جندي ومنتسب أمني، هي مجموع منتسبي الفوج الرابع التابع للفرقة الثالثة في الجيش العراقي، وفوج طوارئ للشرطة المحلية، وسرية من الناقلات التابعة للشرطة الاتحادية، وقوة حماية من موظفي وزارة العدل وفق مسؤولي الوزارة. لهذا يعتقد السعدي أن وزارة العدل لا تتحمل مسؤولية ما حدث، وأن الأحداث حصلت نتيجة انهيار عام للقطعات الأمنية بعد سقوط الموصل بيد التنظيم. وساهمت التأثيرات النفسية لسقوط المدينة والاتصالات التي تلقاها منتسبو السجن من ذويهم في تركهم السجن والعودة إلى منازلهم». قبل هذا، كان حراس سجن بادوش، وغالبيتهم من مدينة الموصل التي ينشط فيها تنظيم «داعش»، يتعرضون الى تهديدات بأستهدافهم وعوائلهم، وفق وزارة العدل التي أكدت أن 200 حارس قدّموا استقالات جماعية نهاية عام 2013 بعد تلقيهم تهديدات بالتصفية. ايضاً، لم يكن سجن بادوش محصناً ضد الاختراقات وعمليات الاقتحام. ففي كانون الأول (ديسمبر) عام 2006 هرب أيمن سبعاوي، ابن الأخ غير الشقيق لرئيس النظام السابق صدام حسين، بتواطؤ مع أحد مسؤولي السجن. ثم جرت عملية الاقتحام التي نفذها تنظيم «القاعدة» بمساعدة تنظيمات من حزب البعث في ربيع عام 2007 وأسفرت عن هروب 186 سجيناً «خطيراً»، بينهم اثنان من أبناء أخوي صدام غير الشقيقين، برزان ووطبان، والناطق باسم القاعدة أبو ميسرة العراقي، و36 عنصراً عربياً في تنظيم القاعدة. الهروب الكبير يقول السجين الناجي أحمد السلطان، إن السجناء من أهالي الموصل عرفوا في وقت متأخر من الليل، ومن خلال الاتصال بعوائلهم، أن المدينة سقطت بيد «داعش». لكن لم يكن بوسع أحد أن يفعل شيئاً. ومع ساعات الصباح الأولى عرف السجناء أن عناصر التنظيم كانوا في طريقهم الى السجن، وهو ما جعلهم يطرقون ابواب القاعات مطالبين بإخراجهم من الزنزانات، «لكن من دون جدوى، فلم يكن هناك احد غير السجناء انفسهم». كان الكثير من سجناء بادوش يتواصلون مع ذويهم عبر الاتصال بالهواتف النقالة، حيث لم يكن صعباً على السجناء في بادوش، أسوة بالكثير من سجون العراق، الحصول على هواتف نقالة اذا دفعوا مبالغ جيدة للحراس المتواطئين كما يقول احمد السلطان. خلال احدى عمليات التفتيش التي نفذتها قوات امنية في آب (اغسطس) من عام 2013، صادرت الأخيرة كما اعلنت حينها، ما مجموعه 750 هاتفاً خليوياً من سجناء حصلوا عليها من طريق ضباط او حراس متواطئين بأسعار تصل الى مليون دينار عراقي (850 دولاراً). كان سجن النساء هو اول السجون التي فتحت ابوابها. ويقول شاهد حضر الى بادوش مع ابناء عمومته لإنقاذ اخيه السجين، إن عناصر «داعش» وصلوا فجراً بسيارات عسكرية، وتبعتهم حافلات مدنية تحمل رايات التنظيم، ثم خرجت وهي محمّلة بنساء يرتدين الزي الأبيض. من طريق وسطاء، تمكّن كاتب التحقيق من تأمين اتصال بالسجينة (س. ع) التي تعيش الآن خارج مدينة الموصل. تؤكد السجينة ان عناصر «داعش» الذين كسروا اقفال السجن نقلوا السجينات في ثلاث حافلات الى منطقة قريبة من بلدة تلكيف المسيحية، ومن هناك اطلقوا سراحهن وطلبوا من كل واحدة ان تتدبر امرها للوصول الى بيتها. وكما تقول الشاهدة، فإن جميع السجينات اللواتي تعرفهن، وصلن الى بيوتهن سالمات. قرابة الساعة الثامنة، كما يتذكّر الشاهد محمد عبدالله، نجح السجناء بكسر أقفال القاعات والخروج إلى بوابة السجن متوجهين إلى بوابة الشام (4.5 كم جنوب شرقي بادوش) أملاً بدخول مدينة الموصل والحصول على وسائط نقل تحملهم الى مدنهم في الوسط والجنوب. يتذكّر الشاهد الناجي أنمار أن العشرات من عناصر تنظيم «داعش» كانوا بانتظار السجناء حين وصلوا الى ما يعرف بتقاطع بادوش. وقالوا لهم انهم سينقلونهم الى مدينة الموصل ليذهبوا من هناك الى مدنهم. وفعلاً، كما يقول أنمار «نقلونا على متن ثلاث شاحنات نقل كبيرة وتوجهوا بنا الى بوابة الشام». سارت الشاحنات الثلاث باتجاه بوابة الشام رفقة سيارات تابعة للتنظيم، لكنها سرعان ما غيّرت اتجاهها وانحدرت غرباً في طريق زراعي يؤدي الى وادي بادوش. وبعد ما يقارب كيلومترين من الطريق العام، كما يتذكّر أنمار «»توقفت الشاحنات بالقرب من سفح الوادي، وهو مجرى مائي موسميّ تغطّيه نباتات الحلفاء والأعشاب المتيّبسة. حالما أنزلوا السجناء من الشاحنات، كما يتذكّر الناجون الثلاثة، أنمار وحمزة ووعد الله، بدأ عناصر التنظيم برصفهم على شكل منسّق، ثم طلب قائد المجموعة أن ينقسم السجناء إلى قسمين، الأول يتجمّع فيه السجناء السنة، والثاني السجناء الشيعة. حينها، كما يقول وعد الله، بدأ النزلاء بالاصطفاف بين المجموعتين، والتحق بالمجموعة السنية عشرات من السجناء الشيعة، منهم شاهدنا وعد الله، لأنهم ادركوا أن المجموعة الشيعية لن تفلت من القتل. لم يحقّق الحاج علي مع أفراد المجموعة السنية، بل طلب منهم الصعود إلى متن الشاحنات الثلاث لنقلهم الى مدينة الموصل، والتي كانت في ذلك الصباح، المعقل الرئيسي لتنظيم «داعش». حين بدأت الشاحنات الثلاث بالعودة أدراجها باتجاه الطريق العام، كما يتذكّر الناجيان أنمار وحمزة، قام عناصر التنظيم بجرد السجناء الشيعة وتثبيت كل سجين برقم محدّد، وكان تسلسل شاهدنا حمزة 335 من بين 519 سجيناً، فيما كان رقم أنمار 257. أمر قائد المجموعة عناصره بتجريد السجناء الشيعة من مقتنياتهم، والتوجه بهم الى حافة الوادي. وهناك قام اثنان من عناصر التنظيم بتصوير السجناء بكاميرات فيديو، قبل ان يبدأ بقية عناصر التنظيم بتنفيذ عملية الإعدام الجماعية. الموتى الأحياء بدأ العشرات من عناصر تنظيم «داعش»، في وقت واحد، بإطلاق النار من بنادق الـ «بي كي سي» والرشاشات الأحادية المحمولة على عجلات، على السجناء العزل. وطوال دقائق «كأنها دهرٌ كامل»، كما يقول أنمار، كانت رشقات الرصاص تحصد أجساد السجناء مجموعة بعد مجموعة. أصيب أنمار برصاصة واحدة في كتفه، ولم يمت، «ساعتها كنت أقف بين سجينين، أصيب الأول في رأسه فتناثر دماغه على كتفي الأيسر، وتطايرت أحشاء الثاني على ثيابي من جهة اليمين». «حين ألقيت بنفسي في بطن الوادي مع بقية الضحايا»، يتذكر أنمار، «كنت أسمع أصوات الرصاصات المكتومة وهي تخترق الأجساد، وتحطّم عظام الضحايا، تمزّقهم، كنت أسمع الضحايا الذين يتساقطون فوقي أو إلى جانبي، يشخرون قبل أن يتحولوا إلى جثث هامدة». بالكاد كان أنمار يسيطر على ارتجافة يديه وهو يحركهما واصفاً هذا المشهد، «عندما توقف إطلاق الرصاص، بدأ عناصر التنظيم بإطلاق الرصاص مجدداً على أجساد الضحايا خشية أن يكون بينهم أحياء، لهذا اختبأت تحت الجثث ولم أتحرك». في بطن الوادي، وعلى بعد أمتار من أنمار، كان حمزة مستلقياً هو الآخر تحت الجثث. وكان ينتظر أن ينتهي عناصر التنظيم من إطلاق الرصاص كي يتخلّص من الجثث التي تكدست فوقه ويهرب من المكان. «لكنهم لم يفعلوا هذا، بل أشعلوا النباتات الجافة في بطن الوادي قبل أن يغادروا وهم يطلقون التكبيرات والأهازيج». وقبل أن ينجح أنمار واثنين من رفاقه في الخروج من الوادي والهرب بعيداً من المكان، كانت النيران تلتهم أجساد الضحايا بالتدريج. في الطرف الثاني من الوادي، كان حمزة، يزحف هو الآخر فوق الجثث للوصول إلى حافة الوادي. «كنت أنادي الأحياء منهم كي ينهضوا، فـ «داعش» رحل أخيراً، وكلّما كنت أمرّ فوق مجموعة من الجثث، كان بعضها يتحرك، ينتزع نفسه من بين بقية الجثث ثم يبدأ بالزحف معي باتجاه طرف الوادي». وصل حمزة إلى أنبوب كونكريتي يخترق الشارع الزراعي نحو الجانب الثاني من الوادي، وهناك وجد ثلاثة من الـ «الموتى الأحياء» الذين سبقوه في الهرب من النيران، وسرعان ما وصل إلى المكان ناجون، «لم أميّز عددهم» يقول حمزة. «ولم أستطع أيضاً أن أبقى معهم وهم يموتون تباعاً لأن أجسادهم كانت ممزّقة بالرصاص، خرجت أنا ومعي اثنان من الناجين وتوجهنا غرباً كي لا نضطر إلى العودة إلى الشارع العام». قبيل وصوله إلى إحدى المناطق الواقعة غرب مدينة الموصل، كان حمزة يسير وحده بعد أن أعياه السير، ونزف رفيقاه كثيراً فتخلّفا عن اللحاق به. لا يعرف حمزة إن كانا تمكّنا من النجاة أم لا، لكنه يرجّح أن يكون هناك آخرون قد لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة خرجوا من الوادي سالمين؛ بعضهم قد يكون وقع في أيدي عناصر «داعش» وقتلوه، وبعضهم قد يكون عبر إلى القرى الواقعة غرب مدينة الموصل، أو التجأوا إلى مناطق في سهل نينوى ووصلوا بعدها إلى إقليم كردستان العراق. * أنجز هذا التحقيق بالتعاون بين شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» «أريج» www.arij.net وشبكة «الصحافة الاستقصائية العراقية» «نيريج» www.nirij.org، بإشراف محمد الربيعي وميادة داود.
أقرأ ايضاً
- منهم تسنموا مناصب وتعلم آخرون مهنة فنية..العتبة الحسينية دربت اكثر من تسعة الاف مستفيد ومستفيدة
- شح المياه في بابل يسبب بهجرة جماعية ومشكلات اجتماعية والموارد المائية بررت اﻷمر
- بعد سنوات من تدميره على يد داعش.. متحف الموصل ينهض من تحت الرماد