حجم النص
نظر يمينا وشمالا, كانت ليلة ظلماء حالكة..إلا من ضوء ذهبي بعيد. تبسم قليلا, وانحنى قليلا مسلما بالتحية باتجاه الضوء, كم كان يتمنى أن يكون هناك بالقرب منه, أحس بسكينة وهو يتذكر نفسه هناك..يجول في المرقد الطاهر, يستنشق عبير القدسية والمهابة الطاهرة. ألحت عليه رغبته بتدخين سيكارة, لكن خطورة إشعال السيكارة, ربما يتسبب باستهدافه من هؤلاء الأوباش, فقناصتهم ينتظرون أي حركة خاطئة, فاكتفى بوضع السيكارة في فمه, والتمتع بما يمكن من طعمها البارد. أغمض عينيه قليلا, وتخيل أولاده الثلاثة..زوجته الحنونة, تذكر نظراتها الحائرة عندما اخبرها انه تطوع للقتال, وسيتدرب لأسبوعين أو ثلاثة, ويرتحل بعدها للدفاع عن المقدسات والوطن..وعنهم. اخبرها عن حاجتهم له, لأنه سبق أن خدم كضابط مجند في القوات الخاصة, ويملك من الخبرة والمهارة, ما يفيد في هذه الأيام الصعبة..رغم تقدم السن. لن ينسى تلك النظرة..فيها مشاعر الدنيا, أحس بحبها الشديد له وتعلقها به, وخوفها وقلقها من المجهول, وتوترها من المسؤولية التي ستتحملها وحدها بدلا عنه كأم..وأب. لن ينسى دمعة سقطت من عينها, كلؤلؤة تتدحرج..حاولت أن تخفيها عنه, عندما مررت الكتاب الكريم فوق رأسه وألبسته دعاء الحفظ, الذي أعطته إياه أمها, وتحمله منذ طفولتها..وكان هو يخطو باتجاه باب الدار, لكنها لم تحتمل الموقف, فاحتضنته بكل ما تملكه من قوة..فاحاطها بذراعيه بقوة اكبر, واخبرها هامسا بأذنها: - هناك سر لم أخبرك به من قبل.. وكانت يده تعبث بخصلة بدء يتسرب لها الشيب في سوالفها. - نعم..اعرفه..انك تحبني..قديمه..ضحكت وهي تغالب دموعها المنحدرة على خديها. ضحك, وهو يعضّ على شفته السفلى مغالبا دموعا خنقها.. - لم تحزري..بل احبك جدا جدا..يجب أن أتوكل الآن. فتح ذراعيه عنها..لكنها لم تفعل..وكأنها تريد أن تشبع منه. سحب نفسا عميقا بكل قوته من السيكارة..لم تشف غليله..تذكر أنها مطفأة. اللعنة عليكم, ما الذي جاء بكم إلى أرضنا, كان يفكر مع نفسه, وهل كان يجب أن يتطوع؟الم يكن هناك الكثيرون, بل عشرات الآلاف ممن يكفون عنه؟وهو يكاد يتجاوز أواسط الأربعين من العمر؟!. حرك رأسه يمنا وشمالا, كم ينفض ترابا عن رأسه..اللعنة على الشيطان, قال لنفسه وهو يشجعها, أن لم أتقدم أنا, فمن سيدافع عن الوطن..الشرف..المقدسات؟. عاد ليتذكر, كيف تم تسريحه عند حل الجيش, وكم هي الصعوبات التي واجهته في البداية, في الحصول على عمل, مع استحالة حصوله على وظيفة, فكل ما يجيده..هو عمله العسكري؟!. تذكر أيامها جلوسه على مائدة العشاء وحوله أولاده, وزوجته تخفف عنه عناء تعبه, وهو يكلمها بلطف, وعيونه تعتذر منها, لأنه كان يتمنى لها شيئا أفضل..وأطفاله يتغامزون ويتقافزون, ولا يكادون يستقرون في جلستهم..كعادتهم. تذكر زيارته الأخيرة الى مرقد العسكريين, يوم أمس وقبل انتقاله إلى خط النار..كم كان شعور لذيذا بالسكينة والهدوء, وموثوقية الخطوة والقرار..أحس كان الإمامين يبتسمان له, ويرحبان به, ويقدران حضوره للدفاع عن مرقدهما.. هكذا فهم وهو يغالب دموعه التي أنزلتها, عواطفه الجياشة حينها وشوقه لزيارة المرقد الطاهر. ابتسم وهو يتذكر كل ذلك..لقد فهم معنى الوطن. أزعجه كثيرا برود طعم السيكارة في فمه, فانحنى في موضعه, وضع رأسه بين ساقيه, واخرج عود ثقاب, وقرر إشعال سيكارته..وليكن ما يكون.