- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
بعض الجوانب المشرقة من حياة أمير المؤمنين / الجزء الثامن
حجم النص
بقلم: عبود مزهر الكرخي عليّ (عليه السلام) في معركة اُحد: لم تكن قريش لتنسى هزيمتها الساحقة في معركة بدر ومقتل صناديدها ورجالها وكثير من أبطالها فعزمت على الثأر من المسلمين ردّاً لاعتبارها الذي فقدته، ولم يمضِ سوى عام حتى استكملت قريش عدّتها، واجتمع إليها أحلافها من المشركين واليهود، وانضمّ إليهم كلّ حاقد وناقم على الدين الإسلامي، فاتّفقت كلمة الكفر، واتّحدت قوى الباطل لمواجهة الحقّ، وخرج جيش الكفر باتّجاه المدينة وقد تجاوز عدده ثلاثة آلاف، وذلك في أوائل شوال من السنة الثالثة للهجرة، وما أن وصل خبرهم إلى مسامع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتى جمع المسلمين واستشارهم في الموقف المناسب الذي يجب أن يتّخذوه، تمّ خطب فيهم وحثّهم على القتال والصبر والثبات، ووعدهم بالنصر والأجر، وتجهّز للخروج بمن معه وكانوا ألفاً أو يزيدون، ودفع لواءه لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ووزّع الرايات على وجوه المهاجرين والأنصار، وأبى النفاق إلاّ أن يأخذ دوره في إضعاف المسلمين، فرجع عبد الله ابن أبي بمن تبعه في منتصف الطريق، وكان عددهم يناهز الثلاثمائة.(1) واستمرّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في مسيره قدماً حتى بلغ أُحداً، فأعدّ أصحابه للقتال ووضع تخطيطاً سليماً محكماً للمعركة يضمن لهم النصر، حيث أمر خمسين رجلاً من الرماة أن يكونوا من وراء المسلمين إلى جانب الجبل، وأكّد عليهم بأن يلزموا أماكنهم ولا يتركوها حتى لو قُتل المسلمون جميعاً.(2) ووصلت قريش إلى (أُحد) وأعدّوا أنفسهم للقتال، فقسّموا الأدوار ووزّعوا المهام كما بدا لهم، وأعطوا لواءهم لبني عبد الدار، وأوّل من استلمه منهم طلحة بن أبي طلحة، ولمّا علم النبيّ بذلك أخذ اللواء من عليّ (عليه السلام) وسلّمه إلى مصعب بن عمير وكان من بني عبد الدار، وبقي معه إلى أن قُتل، وحينئذٍ ردّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى عليّ (عليه السلام)(3)، وكانت معركة (أُحد) قد وقعت في شوال من العام الثالث من الهجرة. وفي اللحظة التي كمل فيها التنظيم انطلقت شرارة المعركة عندما برز كبش الشرك وحامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة الذي كان يُعدّ من شجعان قريش، يتقدّم نحو المسلمين رافعاً صوته متحدّياً لهم مستخفّاً بجمعهم قائلاً: يا معشر أصحاب محمد! إنّكم تزعمون أنّ الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنّة ؛ فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنّة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟ فخرج إليه عليّ (عليه السلام)(4) وبرزا بين الصفّين ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في عريش أُعدّ له يشرف على المعركة ويراقب سيرها، فضرب عليّ طلحة فقطع رجله وسقط على الأرض وسقطت الراية، فذهب علي ليجهز عليه فكشف عورته وناشده الله والرحم، فتركه عليّ (عليه السلام) فكبّر رسول الله وكبّر معه المسلمون فرحاً بنتيجة هذه الجولة. ثمّ تقدّم أخوه عثمان بن أبي طلحة فحمل الراية فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فقتله، فحمل اللواء من بعده أخوهما أبو سعيد، فحمل عليه عليّ (عليه السلام) فقتله، ثمّ أخذ اللواء أرطاة بن شرحبيل فقتله عليّ، وهكذا تعاقب على حمل اللواء تسعة من بني عبد الدار قُتلوا بأجمعهم بسيف عليّ(5) أو سيف حمزة، وكان آخر من حمل اللواء هو غلام لبني عبد الدار يُدعى (صواب) فحمل عليه عليّ وقتله، وسقط اللواء من بعده في ساحة المعركة ولم يجرؤ أحد أن يحمله، فدبّ الرعب في قلوب المشركين، وانهارت معنوياتهم، وانكشف المشركون لا يلوون على شيء حتى أحاط المسلمون بنسائهم، وبدت المعركة وكأنّها قد حُسمت لصالح المسلمين. وهنا عصفت النازلة العظمى بالمسلمين حيث ترك الرماة موقعهم فوق الجبل، وانحدروا يشاركون إخوتهم غنائم المعركة، ولم يثبت على الجبل إلاّ عشرة رماة. فنظر خالد بن الوليد ـ وكان على خيل المشركين ـ خلوّ الجبل وقلّة الثابتين صاح بخيله، وكرّ يحمل على الرماة وتبعه عكرمة فقتلوهم، وهنا تغيّر ميزان القوة ورجحت كفّته لصالح المشركين، فاستطاعوا أن ينفذوا ويشقّوا صفوف المسلمين(6)، وكانت المأساة التي لم يعرف المسلمون لها مثيلاً، فارتبك المسلمون وضاع صوابهم، فكانت هزيمة بعد نصر وانكساراً بعد انتصار، وتفرّق الناس كلّهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأسلموه إلى أعدائه بعد أن استشهد عمّه حمزة من قبل هند بن عتبة واكلها كبده والتمثيل به ومصعب بن عمير، ولم يبق معه أحد إلاّ عليّ ونفر قليل من المهاجرين والأنصار. في هذه اللحظات الحاسمة والحرجة سجّل التأريخ موقف الصمود والفداء الذي وقفه عليّ (عليه السلام) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقف ليدافع عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بكلّ قوة وبسالة وهمّه سلامة الرسول والرسالة، إذ كان يحمل الراية بيد والسيف بالأخرى يصدّ الكتائب ويردّ الهجمات عن الرسول، وكأنّه جيش بكامل عِدَّته وعُدَّته، وكان الرسول كلّما رأى جماعة تهجم عليه قال لعليّ (عليه السلام): يا عليّ احمل عليهم، فيحمل عليهم ويفرّقهم، فلم يزل عليّ يقاتل حتى أثخنته جراحات عديدة في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه.(7) فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال: إنّ هذه لهي المواساة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما، فسمعوا صوتاً في السماء ينادي: لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ.(8) وهكذا استطاع أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يحافظ على حياة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، وأن يوصل نتيجة المعركة إلى حالة من التوازن دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً حاسماً. "وهنا لابد أن نشير إلى معنى المواساة والإيثار ولنتطرق إلى المعنى اللغوي فهي تذكر: الإيثار: تفضيل المرء غيرَه على نفسه. وآثَرْتُ فلاناً على نفسي: من الإيثار الأَصمعي: آثَرْتُك إِيثاراً أَي فَضَّلْتُك. وآثَرْت فلانا على نفسي، من الإيثار. إِذا أَعْطَى، أَراد أَنه يُسْتَأْثَرُ عليكم فَيُفَضَّل غيرُكم في نصيبه من الفيء. وآساهُ بمالِهِ مُواساةً: أَنَالَه منه، وجَعَلَه فيه إسْوَةً، أو لا يكونُ ذلك إلاَّ من كَفافٍ. فإن كان من فَضْلَةٍ، فَلَيْسَ بمُواساةٍ". ولهذا كان نبينا الأكرم محمد(ص)عندما قال لجبرائيل:انها المواساة أي أنه كان في منزلة النبي والأمام علي يواسي الرسول بروحه ونفسه لأنهما من نفس واحدة وعلل بذلك أنه مني وأنا منه بعد أن أنهزم المسلمين. وحتى أن كبار الصحابة ومن الخلفاء قد طلبوا الأمان من قريش عن السدي قال: " لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله (ص) أصحابه فدخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها.. عن ابن إسحاق قال: فرَّ عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان حتى بلغوا الجلعب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله(ص) فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.(9) وحتى الذين اقروا في الروايات عمر بن الخطاب وذهبوا إلى أبن سلول لطلب الأمان من أبي سفيان وهذا ما تتحدث عنه كل كتب التاريخ حيث نجلب دليل واحد حيث: " أن عثمان أجاب بذلك عبد الرحمن بن عوف عندما عيره بفراره يوم أحد فقال له: وأما قولك فررت يوم أحد ولم أفر، فإن الله تبارك وتعالى قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ.. فلم تعيرني بذنب قد عفا الله عنه!.(10) لكن الصحابة قالوا إن هذا العفو في آيات أحُد خاص بالرماة!، أو بالذين رجعوا من هربهم!. وإنما عنى بهذا الرماة (11) ولم يثبت مع رسول إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة والصحابية نسيبة وحنظلة غسيل الملائكة الذي استشهد في معركة أحد. "المعروفون بالجهاد: علي، وحمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة. وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي(عليه السلام) في شوكته وكثرة جهاده. فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة".(12) وقد أجمعت الأمة على أن علياً(عليه السلام) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب عن وجه رسول الله، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي(صلى الله عليه وآله) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً، وما كان قط تحت لواء أحد، ولا فر من زحف.! ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه عندما يكون الأمام أبي الفضل العباس(ع) هو حامل لواء الحسين في واقعة الطف وهو الكاشف عن كرب أخيه عند استكلاب الأعداء عليه ولهذا عندما تدخل الحضرة العباسية تقول في احد أدعيتك {ياكاشف الكرب عن وجه الحسين أكشف كربي بحق وجه أخيك الحسين} ليكون الأمام علي مرة يكفي المؤمنين شر القتال بقتاله البطولي وليصدق قوله سبحانه وتعالى: { {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}(13). وليرد المنافقين الذين خذلوا نبي الله(ص) عند خروجهم معه عند أحد بقيادة عبد الله بن أبي ولكن ينصره لأنه هو والأمام علي(ع) وإياه وكما جاء في محكم كتابه بقوله {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.(14) ولم يقل وليك بل وليكما دلالة على جمعهم الاثنين وهو نبينا الأكرم محمد(ص) والأمام علي(ع). مواقف بعد معركة (أُحد): ولمّا انصرف أبو سفيان ومن معه ؛ بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) فقال: اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون، فإن كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة. قال عليّ(عليه السلام):فخرجتُ في آثارهم فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل يريدون مكّة.(15) ولمّا رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة (عليها السلام) وقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، وناولها عليّ (عليه السلام) سفيه وقد خضّب الدم يده إلى كتفه، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش.(16) كانت معركة أُحد قاسية نتيجتها، شديدة وطأتها، باهضة مكلّفة خسارتها، ورغم مرارة المعركة نلمح فيها ومضات ساطعة من مواقف عليّ (عليه السلام)، فقد امتاز بأمور دون أن يشاركه فيها أحد. 1 ـ أنه كان صاحب راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والتي لم تسقط إلى الأرض رغم فرار أغلب المسلمين. 2 ـ قتله (عليه السلام) أصحاب راية المشركين الذين تصدّوا لحملها، وقد أظهر بذلك حنكة عسكرية وشجاعة فذّة، وأحدث بذلك شرخاً كبيراً في صفوف المشركين كان سبباً في هزيمتهم في أوّل المعركة. 3 ـ ثباته (عليه السلام) مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعدم فراره بعدما فرّ عنه الناس يدلّ على إيمانه المطلق بالمعركة، والذي يكشف عن عمق العقيدة ورسوخها في نفسه (عليه السلام). 4 ـ أنه كان هو المحامي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والدافع عنه كتائب المشركين الذين قصدوا قتل النبي (صلّى الله عليه وآله)، فكان (عليه السلام) يمثّل الدرع التي تقي رسول الله عن وصول مكروه إليه، وهذا يدلّ على عظيم حبّه للرسول وتفانيه في الحرص على سلامته. 5 ـ أنّ أكثر المقتولين من المشركين يومئذٍ قتلاه، وهذا يدلّ على فاعليته القتالية العالية وقوّته وشجاعته (عليه السلام). 6 ـ الأخلاق والقيم العالية التي عكسها في المعركة حيث ترك الإجهاز على طلحة بن أبي طلحة عندما كشف عن عورته حياءً منه (عليه السلام) وتكرّماً. 7 ـ أنّه (عليه السلام) كان قريباً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ملازماً له حيث كان الرسول يوجّهه ليرد الهاجمين عليه، وأيضاً هو الذي أخذ بيد النبي (صلّى الله عليه وآله) لمّا سقط في إحدى الحفر التي حفرها أبو عامر الراهب في ساحة المعركة ليقع فيها المسلمون. كما أنّه هو الذي حمل الماء بدرقته إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ليغسل الدم والتراب عن وجهه ورأسه. 8 ـ ورغم الجراحات التي تعرّض لها عليّ (عليه السلام) والجهد الذي بذله ؛ فقد أرسله النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بعد انصراف قريش عن المعركة ليستطلع أخبارهم، وهذا يدلّ على ثقة الرسول بقدرة عليّ ودقّة ضبطه للمعلومات وحنكته في معالجة الأمور الطارئة، فالمعركة لم تنته بعد تماماً.(17) عليّ (عليه السلام) في معركة الخندق: تمثّل أمام قريش الفشل في القضاء على المسلمين حقيقة واضحة ن ولكنّها الجاهلية والعناد والإصرار على الكفر، فعادت قريش تتهيّأ مرةً أخرى لتوجيه الضربة القاضية للمسلمين، وذلك بالتحالف مع القبائل الجاهلية الأخرى واليهود أيضاً، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف يقودها رأس الشرك والنفاق أبو سفيان(18)، وازداد غيظ وحقد المشركين حين واجهوا الأسلوب الدفاعي والتكتيك الحربي الّذي اتّخذه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، بعد أن استشار أصحابه فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، غير أنّ الاندفاع والحماس والغرور بالعدّة والعدد كان قويّاً في نفوس الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين والقضاء على الإسلام نهائياً. وتمكّن بعض فرسان قريش من عبور الخندق من مكان ضيّق فيه، فأصبحوا هم والمسلمون على صعيد واحد، فازداد المسلمون خوفاً على خوفهم وخرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم. فوقف عمرو بن عبد ودّ يطلب المبارزة ويتحدّى المسلمين، وهدأت أصوات المسلمين أمام صيحاته وكأنّ على رؤوسهم الطير، كلّ يفكر في نفسه ويحسب لهذا الفارس ألف حساب. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هل يبارزه أحد ؟ فبرز إليه عليّ (عليه السلام) فقال: أنا له يا رسول الله، فأجلسه النبيّ، وللمرّة الثانية والثالثة طالب عمرو المبارزة فلم يكن يجيبه إلاّ عليّ (عليه السلام) وفي كلّ مرّة كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يطلب منه الجلوس(19) ثم أذن النبيّ لعليّ بعد أن عمّمه بعمامته وقلّده بسيفه وألبسه درعه، ثمّ رفع يديه وقال: (اللّهم إنّك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أُحد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين).(20) وبرز عليّ (عليه السلام) إلى ساحة المعركة بعد أن قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه).(21) وانحدر عليّ (عليه السلام) نحو عمرو والثقة بنصر الله تملأ قلبه، أمّا عمرو فقد كان لقاؤه مع عليّ مفاجأة له، وفي هذا الموقف تردّد عمرو في مبارزة عليّ (عليه السلام) فقال له: يا عمرو، إنّك كنت في الجاهلية تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاثة إلاّ قبلتها أو واحدة منها، قال: أجل. قال عليّ (عليه السلام): فإنّي أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأن تسلم لربّ العالمين، قال: أخّر عني هذه، قال علي (عليه السلام): أما إنّها خير لك.لو أخذتها، ثمّ قال: ترجع من حيث جئت، قال: لا تتحدّث نساء قريش بهذا أبداً، قال عليّ (عليه السلام): تنزل تقاتلني. فغضب عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه وعقرها، ثمّ أقبل على عليّ (عليه السلام) فتقاتلا، وضربه عمرو بسيفه فاتّقاه عليّ بدرقته، فأثبت فيها السيف وأصاب رأسه، ثمّ ضربه عليّ على عاتقه فسقط إلى الأرض يخور بدمه، وعندها كبّر علي (عليه السلام) وكبّر المسلمون خلفه، وفرّ أصحابه من هول ما شاهدوه، فلحق بهم عليّ فسقط نوفل بن عبد الله في الخندق فنزل إليه علي فقتله(22). وانجلت الواقعة عن مصرع عمرو كما قال الله تعالى: ((وَرَدَّ اللَّه الَّذينَ كَفَروا بغَيظهم لَم يَنَالوا خَيراً)).(23) ولما قتله عليّ (عليه السلام) احتزّ رأسه وأقبل نحو النبي (صلى الله عليه وآله) ووجهه يتهلل, فألقى الرأس بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله), فقبّل النبي (صلى الله عليه وآله) رأس عليّ (عليه السلام) ووجهه, وقال له عمر بن الخطاب: هلاّ سلبته درعه فما لأحد درع مثلها ؟ فقال: إنّي استحييت أن أكشف سوأة ابن عمّي, وكان ابن مسعود يقرأ من ذلك اليوم كذا: (وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ وكان الله قوياً عزيزاً). وهنا يعيد الأمام علي نبل خلقه وعلوها بانه لا يقبل ويأنف عن كل القيم الدنيوية التي تتضمن السلب والنهب كما انه لا يسلب عدوه لكي يرى عورته والتي يعيدها كما فعلها من أبو طلحة ومستقبلاً مع عمرو بن العاص. وتلقّت الأحزاب هذه الضربة القاسية بدهشة واستغراب، لأنّها لم تكن تتوقّع أنّ أحداً يجرؤ على قتل عمرو بن عبد ودّ، فدبّ الخوف في نفوسهم ولم يجسر أحد منهم على تكرارالمحاولة إلاّ أنّهم بقوا محاصرين للمدينة فترة من الزمن حتى أذن الله بهزيمتهم حين استخدم رسول الله أسلوباً آخر لمحاربتهم. وامتاز عليّ (عليه السلام) على جميع من حضروا غزوة الخندق بأمور: 1 ـ مبادرته لحماية الثغرة التي عبر منها عمرو وأصحابه، والتي تدلّ على الحزم والإقدام في مواجهة الطوارئ في ساحة المعركة. 2 ـ مبارزته عَمْراً وقتله، وقد تردّد المسلمون في مبارزته فلم يخرج إليه أحد، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشيداً بموقف عليّ (عليه السلام): (لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة).(24) 3 ـ الشجاعة والقوّة الفائقة التي ظهرت منه (عليه السلام) طوال المعركة تمثلت واضحة حينما لحق المنهزمين الذين عبروا مع عمرو بن عبد ود، وهو راجل وهم فرسان. 4 ـ الأخلاق العالية التي كان يتميز بها (عليه السلام) في شتّى المواقف، مظهراً فيها عظمة الرسالة والرسول، منها أنه لم يسلب عَمْراً درعه مع أنّها من الدروع الممتازة بين دروع العرب. 5 ـ إن قتله (عليه السلام) عَمْراً ونوفلاً ولحوقه بالمنهزمين كان سبباً في إعادة الثقة للمسلمين بنفوسهم بعدما رأوا الجمع الكبير لقريش وأحلافها، وأيضاً كان سبباً لهزيمة المشركين مع ما أصابهم من الريح والبرد وسبب خوفهم من أن يعاودوا الغزو. 6 ـ الشرف الرفيع الذي ناله عليّ (عليه السلام) بشهادة الرسول حين قال (صلّى الله عليه وآله) عند مبارزة عليّ (عليه السلام): (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه).(25) وفي أجزائنا القادمة نستكمل تلك البطولات الفذة وكل الجوانب المشرقة لسيد الوصيين وامام المتقين سيدي ومولاي أمير المؤمنين(ع) أن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: 1 ـ الكامل في التأريخ: 2 / 150، وسيرة ابن هشام: 3 / 64. 2 ـ مغازي الواقدي: 1 / 224، والكامل في التأريخ: 2 / 152، وسيرة ابن هشام: 3 / 66. 3 ـ تأريخ الطبري: 2 / 199 ط مؤسسة الأعلمي. 4 ـ سيرة ابن هشام: 3 / 73. 5 ـ الكامل في التاريخ: 2 / 152 ـ 154. 6 ـ تأريخ الطبري: 2 / 194 ط مؤسسة الأعلمي. 7 ـ الكامل في التأريخ: 2 / 154، وأعيان الشيعة: 1 / 288، وبحار الأنوار: 20 / 54. 8 ـ الكامل في التأريخ: 2 / 154، وفرائد السمطين للحمويني: 1 / 257 الحديث 198، 199، وتأريخ دمشق لابن عساكر: 1 / 148، وروضة الكافي: الحديث: 90. 9 ـ تفسير الطبري: 4/194. 10 ـ مجمع الزوائد: 9/ 85، وحسنه. 11 ـ الحاكم: 2/296، والطبراني الكبير: 10/301. 12 ـ وفي المناقب:1/341 11 ـ أعيان الشيعة: 1 / 389، والسيرة النبوية لابن هشام: 3 / 94. 12 ـ أعيان الشيعة: 1 / 390. 13 ـ [الأحزاب: 25] 14 ـ [آل عمران: 122] 15 ـ أعيان الشيعة: 1 / 389، والسيرة النبوية لابن هشام: 3 / 94. 16 ـ أعيان الشيعة: 1 / 390. 17 ـ أعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام). قم المقدسة ص 82 ـ 83. 18 ـ السيرة الحلبية: 2 / 631. 19 ـ السيرة النبوية لابن هشام: 3 / 224، تاريخ الطبري: 3 / 172، والكامل في التاريخ: 2 / 180، والسيرة الحلبية: 2 / 318. 20 ـ موسوعة التاريخ الإسلامي: 2 / 491 و 492، عن شرح نهج البلاغة: 19 / 61، وراجع المناقب للخوارزمي: 144، السيرة الحلبية: 2 / 318. 21 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 19/ 61، ينابيع المودة: الباب الثالث والعشرون، رواه عن ابن مسعود ورواه الميلاني في قادتنا: 2 / 108 عن الدميري في حياة الحيوان: 1 / 248 وعن الفضل بن روزبهان: انّه حديث صحيح لا ينكره إلاّ سقيم الرأي ضعيف الإيمان. ولكنه ليس نصّاً في الإمامة. 22 ـ تاريخ دمشق: 1 / 150، وراجع أيضاً موسوعة التاريخ الإسلامي: 2 / 495. 23 ـ [الأحزاب:25]. 24 - مستدرك الحاكم: 3 / 32، نقلاً عن هامش تأريخ دمشق: 1 / 155، وفرائد السمطين: 1 / 255 حديث 197. 25 ـ أعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام). قم المقدسة ص 82 ـ 83. R
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- ماذا بعد لبنان / 2