حجم النص
بقلم :فراس الغضبان الحمداني
هذه مقالة لكنها تشتمل على رواية حقيقية لحدث مهم من تاريخ العراق وهو الذي صاحب اغتيال عدنان خير الله طلفاح
بعيداً عن الادعاء أو محاولة تسجيل انتصار أو مجد شخصي أقول: إن الكثير من العراقيين كانوا يحلمون في لحظة ما بتحقيق معجزة اغتيال الطاغية صدام حسين في ظرف جعل هؤلاء الأشخاص وبمحض الصدفة على مقربة، وعلى بعد أمتار من القائد الضرورة؛ فراودتهم أحلام اغتياله والدخول إلى التاريخ والشهرة من أوسع أبوابها وهذا ما حدث معي واليكم تفاصيل القصة .
ذات يوم وفي صباح أول أيام عيد الفطر المبارك الموافق 6 / 5 / 1989 فوجئنا ومن خلال وسائل
الإعلام العراقية وهي تنعى لنا مقتل (عدنان خير الله) الذي سقطت به الطائرة التي تقلُّه وهي من بين ثلاث طائرات قرب منطقة (الكوير) التابعة لمحافظة نينوى أو كما يرى بعض أن الذي أسقطها صدام من خلال عملية مدبرة ثم تباكى عليه ودعا العراقيين في مصباح العيد لنعيه والبكاء على الفارس الذي ترجل مبكرا كما ذكر النعي الصادر من رئيس الجمهورية صدام حسين عبر الإذاعة والتلفزيون (لقد هوى احد النجوم المتلألئة في سمائكم أيها العراقيون انه الفريق أول الركن الطيار عدنان خير الله وزير الدفاع عندما كان بزيارة تفقدية للمنطقة الشمالية حيث قامت ثلاث طائرات
سمتية بالإقلاع من المنطقة الشمالية إلى بغداد وصلت اثنتان منها وكبت طائرة الوزير بسبب عاصفة هوجاء أدت إلى تحطمها واستشهاد الوزير ومن معه). لا ادري كيف قادتني قدمي حين اخبرني احد الأصدقاء في المكان والزمان الذي سيتم فيه تشييع عدنان، وما هي الا نصف ساعة حتى وصلت بالقرب من مكان التشييع القريب من ساحة الاحتفالات الكبرى وبالضبط في المكان الذي هو الآن بناية مجلس الوزراء التي كانت هيئة التصنيع العسكري حيث شهد الشارع المقابل لها استعدادات خرافية لتهيئة عملية تشييع رسمي بحضور شخصيات عربية كبيرة يتصدرها صدام وأسرة وأقارب وأصدقاء ومحبو
الفقيد من مختلف مفاصل الدولة .
لقد استطعت إن ادخل إلى مكان التشييع خلسة مع حاشية احد الوزراء مستغلا الفوضى التي سادت المكان دون إن ينتبه أحدا حيث كان الوزراء يتوافدون بمواكبهم الكبيرة ويركنون سياراتهم في الجهة المقابلة إلى فندق الرشيد وبالضبط جوار بناية قصر المؤتمرات الآن وبعدها يترجلون ويدخلون باتجاه الطريق الذي يمتد من ساحة الاحتفالات حتى مطار المثنى حيث يأخذ الجنود المدججون بالسلاح أماكنهم في جانبي الطريق
وعندما يصل أي وزير أو مسؤول مع حاشيته يفتح الحرس طريقا لدخولهم وكنت أنا من بينهم .
كنت اتابع الارتباك الذي يسود مشهد مكان التشييع فكان من المفترض أن يُشيَّع جثمان ابن خيرالله في عربة ملكية تجرها الخيول ولكن وفي اللحظة الأخيرة تم العدول عن ذلك حيث بدأت الخيول تفقد توازنها وكان الهلع أصابها وبدأت تقذف نفاياتها بطريقة مقرفة وكأنها تعلم أن القائد الضرورة سيصل المكان فاحتفلت بمجيئه على طريقتها الخاصة ، وقبل أن تنطلق مدافع ترحيبها تم في الحال إلغاء مشاركتها واستبدالها بسيارة حديثة لجر
العربة التي سُجِّي فيها نعش وزير الدفاع المغدور وكان على مقربة مني (خير الله طلفاح) وهو يطل برأسه الضخم من سيارة مرسيدس فاخرة سوداء وكان الجميع يبتعدون عنه لأنه كان يجهش بالبكاء بصوت عال معبرا عن فجيعته وخسارته لابنه عدنان واتهامه لصدام .
ثم تصاعد المشهد بحضور كبار المسؤولين حيث كان بجواري طارق عزيز وقطيع من الوزراء ينتشرون تحت ضلال الأشجار المتفرقة قرب الرصيف ليحتموا من حرارة الجو وهم لا يعلمون كيف تسلل هذا الصعلوك الذي بينهم إلى هذا المكان على الرغم من التشديدات الأمنية الخرافية وما هي الا لحظات حتى ساد المكان السكون حيث وصل صدام وهو يقود سيارة مرسيدس بنفسه ولم يكن أحد معه فترجل من سيارته الفارهة بلباسه الزيتوني الفاتح ونظارته
العسلية محاولا أمام الجميع أن يتقمص دور المفجوع والحزين وتقدَّم باتجاهنا ليقف بالقرب منا بانتظار البدء في التشييع وحينها كنت اتأمَّل صدام وهو كان على مرمى حجر مني واقسم بالله العظيم وبدون ادعاء إنني فكرت في تلك اللحظة أن يكون معي سلاح لأطلق النار باتجاه الطاغية دون تردد ، لكنني بقيت مذهولا لهذا المشهد وشعرت بالحزن لعجزي عن تنفيذ عملية اغتيال صدام حسين والتي ستجعلني ادخل التاريخ من أوسع أبوابه ولكني ومثل مئات العراقيين الذين أتيحت لهم هذه الفرصة استسلمت للعجز والاستسلام للأمنيات وهذا ما حدث لي في ذلك اليوم الرهيب والغريب
.
وكان على رأس المشيعين الطاغية صدام حسين وأعضاء القيادتين القومية والقطرية والقيادة العامة للقوات المسلحة والهيئات الدبلوماسية العربية والأجنبية وكبار رجال الدولة من المدنيين والعسكريين وقد خرج الناس في بغداد على جانبي الطريق المؤدي إلى الجندي المجهول باتجاه مطار المثنى والى مثواه الأخير في مدينة تكريت حيث دفن هناك وقد أُمِّن جثمانه ثم نُقِلَ بعد فترة إلى ساحة نصب الشهيد
الملاصقة لمدينة الألعاب في الرصافة .
إن هذا المشهد وهذا الاستذكار يؤكد حقيقة كبرى هي إن نهاية الطغاة محسومة وإنها محكومة بظرفها وهي متوقعة في كل لحظة وثانية تماما كما حدث للسادات الذي كان في ذروة غطرسته وهو يتابع الاستعراض العسكري فانهال عليه الرصاص ليرديه قتيلا ويجعل حاشيته يبحثون عنه بين الكراسي وهم يصرخون (الريس فين) .
وهذا السيناريو قد يحدث وينجح في أية لحظة مع أي رئيس أو ملك أو أمير أو صاحب سمو أو رئيس حزب أو رئيس كتلة في البرلمان .
أقرأ ايضاً
- فلسطين والجامعات العالمية والصدام الكبير
- حبل الأمل ورقبة صدام
- النظام السياسي في العراق وإعادة مفاهيم صدام الخطيرة إلى الأذهان !!