- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الولايات المتحدة وحصاد البيدر العراقي
عباس عبد الرزاق الصباغ
ليست البراغماتية المرنة ولا القوة الناعمة ولا الرغبة في حصاد اكبر عدد من الأصوات في برنامجه الانتخابي فحسب هو ما دعا الرئيس الأمريكي باراك اوباما الى وضع جدول نهائي لانسحاب قوات بلاده من العراق (وأفغانستان) ضمن أولويات سباقه نحو البيت الأبيض وإنما هناك توجه جديد في بوصلة الرأي العام الأمريكي (الناخب ودافع الضرائب والممول العام للتوجهات الخارجية خاصة العسكرية منها) والمؤسسات الإعلامية الضخمة واللوبي الداعم لأي إدارة منتخبة تضمن مصالح هذا اللوبي وكارتلات الشركات الكبرى والجهات التي بيدها مفاتح حركة النقد والمال والتجارة والاستثمار والهيمنة الاقتصادية الأمريكية على مجمل النشاطات الاقتصادية والمالية والتجارية العالمية فضلا عن توجه بوصلة مهندسي الأمن القومي الأمريكي والقائمين على توجيه فعاليات السياسة الخارجية بما يخدم ثوابت الإستراتيجيات الأمريكية بتعاقب إداراتها جمهورية كانت ام ديمقراطية ومتغيرات تكتيكاتها وبما يتواشج مع المصالح العليا ومتغيرات الساحة الدولية خاصة تلك التي تساهم الولايات المتحدة بنفسها او مع حلفائها في إحداث وقائعها ورسم مساراتها ..هذا التوجه العام هو الذي جعل كفة اوباما ترجح على كفة منافسيه في مضمار التنافس نحو البيت الأبيض وهو توجه تناغمت فيه جميع الخطوط البيانية الأمريكية من مصادر القرار الى اتجاهات الرأي العام الى مصالح اللوبي والفعاليات الاقتصادية وغيرها ..وذلك بتصحيح مسار البوصلة السياسية الأمريكية والبحث عن ثوابت أخرى تخدم إستراتيجيات الأمن القومي الأمريكي والمصالح الجيوستراتيجية سياسية كانت ام اقتصادية ام أمنية تلك المنتشرة في عموم خارطة الجيوبولوتيك العالمية مع عدم التفريط "قدر الممكن" بأهم الثوابت الإستراتيجية خاصة ما يتعلق بمصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط الحيوية وتحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل وبقية حلفائها وهذا التوجه الأمريكي العام المتناغم مع برنامج اوباما الانتخابي هو الذي جعل أمريكا على سكة أخرى ونحو مسار آخر بميكافلية جديدة تختلف نوعا ما عن تلك التي وضعت الولايات المتحدة في جملة من المآزق التاريخية والتي كان آخرها المأزق العراقي (2003 / 2011) مرورا بسلسلة طويلة من المآزق ربما كانت فيتنام أهمها (انسحب الأمريكان منها بعد هزيمتهم الفادحة في آذار 1973) وذلك إبان فورة توجه البوصلة الأمريكية نحو أتون الحرب الباردة المستعرة آنذاك .. فضلا عن إن الولايات المتحدة وفي خضم تلك الحرب وضمن التسابق والتناحر على المصالح الحيوية جدا في الشرق الأوسط مع الاتحاد السوفييتي وكتلة المعسكر الشرقي، ساهمت بشكل فاعل في ترتيب الأوضاع السياسية في هذه المنطقة ومنها العراق وما شهده هذا البلد من منعطفات سياسية ومنزلقات و"خرابات" شمولية على مدى اكثر من نصف قرن أحرقت الأخضر واليابس وجعلت مسارات الأحداث تأخذ أشكالا أكثر دموية وقتامة وخطورة من أي مشهد شرق أوسطي آخر وهذا ما يفسر استمرار الديكتاتوريات التوتاليتارية على حكم العراق كونه من جهة يمثل احد أهم المفاصل المرتبطة بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط ومن جهة أخرى يمثل احد أهم النقاط حساسية لمتون الأمن القومي الأمريكي شرق أوسطيا وعالميا وهذا التوجه كلف الولايات المتحدة الكثير من الخسائر المادية والمعنوية وهو ما جعلها تتوجه نحو ميكافيلية أخرى أكثر اعتدالا لإعادة ترتيب المنطقة و"تنظيفها" وتنقيتها من مخلفات ورواسب الحرب الباردة والأخطاء الكوارثية التي توارثتها عن تعاقب الإدارات الأمريكية ، ونحو براغماتية مستحدثة لا تكلف أمريكا المزيد من الضحايا البشرية والمزيد الازمات الاقتصادية المترتبة عن العجز المتراكم على الخزانة الأمريكية وكي لاتذهب التريليونات التي يضخها دافع الضرائب الأمريكي من قوته هباء منثورا الى محارق العالم الثالث او الشرق الأوسط او العراق وكما يبدو إن عصرا أمريكيا جديدا قد بدأ بتحول أكثر أصحاب القرار سيما البنتاغون والـ "سي آي اي" الى صقور أكثر اعتدالا ونضجا من ترسبات دوغمائية "صقور" المدرسة الكيسنجرية ونظريات الاحتواء المزدوج وحرب النجوم فيما بعد وهو ما يفسر الموقف الأمريكي الحذر تجاه إيران والموقف "المتعاطف " مع شعوب الدول التي شهدت "ربيعا" عربيا ومن الممكن ان نعتبر ان القرار الأمريكي بإسقاط نظام صدام حسين كان الخطوة الأولى نحو هذا المسعى لخلق شرق أوسط جديد يساهم في خدمة المصالح الامريكية بمرونة اكثر من قبل وخسائر اقل وبما إن العراق هو من أهم المفاصل الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط ومن أكثرها أهمية وخطورة ليس على مستوى الأمن القومي الأمريكي بل على المستوى العالمي ايضا فقد كانت الخطوة الأمريكية هي الأكثر إستراتيجية والاوسع محورية حيث ابتدأت بالعراق من حيث الأسباب والحيثيات ومن حيث النتائج والمآلات الحالية والمستقبلية ومن هنا يُطرح هذا السؤال: في حال خروج قوات الاحتلال الأمريكية وبشكل كامل من البلاد وحسب التطبيق الحرفي لاتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين الطرفين، من هو الرابح والخاسر في هذا السجال ؟ وماذا حصدت أمريكا من البيدر العراقي؟ او بالاحرى ما ذا جنت امريكا من الخراب العراقي الذي ساهمت اكثر من مرة في رسم خرائطه؟ فتكون الإجابة ان الرابح الأول وبالدرجة الاساس هو العراق إذا نجح في الاختبار الأخير نحو المستقبل ألا وهو اختبار السيادة العراقية الأصعب في تاريخ العراق الحديث والمعاصر(وهي سيادة شبه ناقصة منذ عام 1990 ) سيما إذا استشرفنا أهمية النتائج التي ترتبت من احتلالها العراق سنة 2003 وماترتب عليه من إسقاط نظام صدام وما اذا كان احتلال العراق بهذه الكيفية خطاً ستراتيجيا ام لا وهل تحققت الأهداف المتوخاة من هذا الاحتلال؟ وعلى اية حال ان العراقيين يأملون أن تكون الولايات المتحدة قد صححت أخطاءها التاريخية في العراق وتعيد قراءة المشهد العراقي وفقا لمنظور مصالح الشعبين وليس حسب منظور الامن القومي الامريكي فقط وتتخلى في الوقت نفسه عن المنطق الكولنيالي الذي جلب الكوارث للعراق وللمنطقة لعقود طوال من عدم الاستقرار والحروب (الأصلية منها او بالإنابة) بسبب التخندق الاممي بين القوى العظمى والكبرى والتجاذبات المتعاكسة حول المصالح الحيوية في هذه المنطقة المهمة من العالم وخصوصا العراق الذي خسر الكثير من فرص التقدم وهدرت طاقاته البشرية وتحطمت بناه الفوقية والتحتية ولم يتمتع بموقعه الجيوستراتيجي ولم تُستثمر أهميته الجيوبولوتيكية وفرادته المحورية وتأخر عن اخذ دوره الطبيعي لأكثر من نصف قرن دافعا ثمن محوريته باهظا وما زال يدفع واذا ما أرادت الولايات المتحدة ان لا تكون قد خرجت خالية الوفاض من البيدر العراقي عليها ان تكسب ثقة الشعب العراقي اولا وترسم خارطة طريق في سبيل التعاون البناء المشترك على قدم المساواة كما فعلت وتفعل اليابان وهي أسوة حسنة لمن يريد ان يسجل موقفا أخلاقيا في الأقل والفرصة سانحة الآن أمام الولايات المتحدة اكثر من اي وقت مضى لتسجيل هكذا موقف.
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي