- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الأقلمة وعراقا الشمال والجنوب
منذ الموافقة الرسمية على اعلان الدستور الدائم في العراق عام 2005 جرى الحديث السياسي بخصوص قضية الفيدرالية في مدن وسط وجنوب العراق بشكل خافت حينا وبشكل صارخ حينا اخر، غير ان هذه القضية كانت تواجه شعبيا بموجات عاتية من الانتقادات الجماهيرية الحادة على خلفية الموروث الشعاراتي الوحدوي المهيمن على العقلية العامة في هذه المدن فضلا عن مشاعر مواطنيها السلبية تجاه تجربة اقليم كردستان التي يرى فيها العدد الاكبر منهم شطرا لتراب البلاد على اساس عرقي وتحويل دولتهم من الناحية العملية الواقعية الى (عراق شمال وعراق جنوب ) اكثر منها دولة بسيطة او حتى دولة مركبة تطبق صيغة حكم اتحادي معقول .
ان الاستياء الشعبي من فكرة الفيدرالية يمكن البرهنة عليه عمليا عبر ادوات استطلاعات الراي المحلية التي كانت تجريها حتى الامس القريب العديد من وسائل الاعلام العاملة في البلاد – عدا كردستان - وتصب غالبا في صالح ذلك الاستياء.
لقد تجلى ذلك النفور الشعبي تجاه مشاريع أقلمة العراق بشكل لا لبس فيه مع اجهاض المحاولة الاولى لمشروع انشاء اقليم (البصرة المستقل) وهو المقترح الذي تقدم به النائب البرلماني السابق وائل عبد اللطيف وصادف رفضا شبه تام من قبل اهالي البصرة انفسهم عام 2008- 2009. وبسبب ذلك الرفض فقد نال صاحب المقترح المذكور نصيبه من الجفاء والنقمة الجماهيرية بدت بوضوح في عجز القاضي وائل عبد اللطيف عن كسب ما يكفي من اصوات مواطنيه البصريين للحفاظ على كرسي النيابة واخفاقه في دخول قبة البرلمان بعد انتخابات 2009.
ان ذلك الرفض الشعبي البصري لفكرة الأقلمة والموثق رسميا في سجلات الامم المتحدة يمكن ان يمنح مؤشرا مهما - في حينه - يؤكد ضآلة الدعم الشعبي لفكرة الفيدرالية، وهو مؤشر قابل للتعميم في نطاق بقية مدن جنوب العراق التي تتشارك فيما بينها من حيث النسيج الديموغرافي العام للسكان، وكذلك تتشابه في مستوى الوضع الاداري البائس الذي يضع محافظة البصرة على وجه التحديد في نقطة الصفر من حيث توفير القدر الادنى من الخدمات المقدمة للمواطنين على الرغم من كون هذه المحافظة بالذات تشكل ايراداتها النفطية حصة الاسد في الناتج القومي للبلاد.
لكن التوجس الشعبي العام ضد فكرة الفيدرالية في محافظات الوسط والجنوب بدأ يتخذ طابعا مغايرا بعد الانتخابات البرلمانية الاخيرة ووصل الى اوج التغيير مع الدعوة التي اطلقها رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي في زيارته الاخيرة الى واشنطن، هذه التصريحات التي حملت بين طياتها مضمون الرغبة بانشاء فيدرالية (سنية ) أي فيدرالية (طائفية) في مقابل الفيدرالية (العرقية) في اقليم كردستان التي كان السيد النجيفي يقف على راس منتقديها في الايام الغابرة.
صحيح ان تصريحات النجيفي قوبلت بحملات شجب سياسية من خصومه السياسيين خاصة رئيس الحكومة الحالي نوري المالكي، وصحيح ان تصريحات النجيفي احدثت صدمة كبيرة في نفوس بعض الساسة ممن يعتقدون في شخصية النجيفي غلبة الطابع الوحدوي والميل الى تركيز الصلاحيات الادارية في مركز الدولة، وصحيح ان احد المحسوبين على كتلة النجيفي (عراقيون) بادر الى التبريء السريع مما فاه به رئيس كتلته، بيد ان الصحيح ايضا ان هذه التصريحات لم يصاحبها نقمة شعبية مماثلة ضد مطلقها اسامة النجيفي على غرار ماحدث مع سيناريو وائل عبد اللطيف ولا يتوقع ان يحدث شيء من ذلك في مستقبل الايام.
بل لعل السيناريو المعاكس تماما هو ما سوف يتسيد الموقف الشعبي في محافظة الموصل عما قريب، لاسيما مع انثيال دعاوى بعض المسؤولين في محافظات الانبار وذي قار وميسان وبابل التي تطالب بانشاء اقاليم مستقلة وعلى وجه السرعة ايضا.
ان ما يمكن الاعتقاد به في ظل المعطيات الراهنة هي ان التصريحات النجيفية الاخيرة كانت تمثل اعلانا اوليا لتعبئة الجماهير العراقية بوجه عام لصالح تبني فكرة انشاء الاقاليم، وسوف تعقبها مرحلة تقديم مقترحات التأسيس بشكل واقعي، وسوف تحوز مقترحات انشاء الاقاليم الجديدة الرضا الجماهيري في اكثر من محافظة عراقية لاسيما تلك التي يعيش ابناؤها اوضاعا حياتية قاهرة.
ان غالبية المواطنين البصريين يعيشون حاليا حالة الندم جراء تفريطهم بمشروع اقليمهم الخاص وان الكثيرين منهم بصدد تبني موقف اكثر مرونة اذا ما وجدوا انفسهم ثانية امام رفض او قبول انشاء اقليم مماثل لما هو موجود في كردستان كما يستشف من الجو الرسمي والشعبي في هذه المحافظة.
في الواقع ان ما يدعو العراقيين حتى المتمسكين منهم بقوة في بقاء العراق واحدا موحدا الى الانصياع الى فكرة الفدرلة في الظروف الحالية يتمثل في المعاناة المستمرة التي يتعرض لها المواطن العادي في المحافظات العراقية الوسطى والجنوبية نتيجة الغياب شبه الكامل للخدمات الضرورية وتحميل الحكومة المركزية القسط الاكبر عن هذه المسؤولية وطبعا هناك الغيرة الناتجة عن مقارنة ما هم عليه من اوضاع حياتية بما هو كائن في اقليم كردستان.ومع التسليم بهذه الفكرة الاخيرة فليس امام الحكومة (المركزية) سوى طريقين لا ثالث لهما اما ان تسعى الى خوض حرب (خاسرة) من اجل استعادة اقليم كردستان وجعله مساويا من حيث الخدمات لمدينة العمارة مثلا او ان تفكر بخطط عملية (ناجحة) للارتقاء بخدمات محافظات الوسط والجنوب تغري الاهالي هناك بالبقاء في دولة (عراق الجنوب).