نوازع الخير والالتزام بالقيم والفضائل هي التي تتصارع دوما مع نوازع الشر التي تجرنا إلى ضرب القيم الإنسانية والانسياق لهوى النفس والشيطان، وتبقى محطات عمر الإنسان واقعة تحت تأثير تجاذبات النفس اللوامة والنفس الأمارة وهي التي تحدد سلوكه ومصيره إيجابا أو سلبا، وما يترتب عليها من انعكاسات تضفي على صاحبها والمجتمع ظلالها المختمرة في بوتقة الخير تارة والشر أخرى.
لحظات تجلب لنا السعادة نعرفها ولكن نتجاهلها، نجد فيها الراحة والطمأنينة ولا نمارسها، نلاحظ أثرها على أنفسنا ولا نواظب عليها، بدقائق قليلة ندركها ولا نتمسك بها، هل تساءلتم ما هي؟ ولماذا نتجاهلها أو نتناساها؟ ما السبب الذي يجعلنا بعيدين عنها؟ هي النفس الأمّارة تسلب عقولنا بملذات مزيفة وسعادة مؤقتة إلى أن تجرنا في غفلة طويلة خفيفة على قلوبنا دون أن نشعر بعاقبة أمورنا وما الذي ينتظرنا؟
حلاوة الدنيا وطراوتها قد تنسي مبادؤنا وتقسي قلوبنا، وتجعلنا مبتعدين عن فطرتنا وحقيقة شعورنا وقد تحمّلنا فوق طاقتنا بمغريات الدنيا دون إدراك لذلك، مندفعين وراء أهوائنا وغرائزنا بدون توقف أو تردد، معتقدين بأننا نسعى لتحقيق السعادة الحقيقية والراحة والأمان، وإن كنا نريد حقا ذلك فلنبادر إلى التوبة واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ولنكثر من الاستغفار فان له آثار عظيمة على الإنسان، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:\" خير الدعاء الاستغفار\"، وكلما كانت نيتنا صافية مع الله نتلقى الراحة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة.
ومن لم يعرض نفسه بين الفينة والأخرى لنفحات الاستغفار والتوبة يكون مصيره كمصير شريك بن عبد الله النخعي وهو من الفقهاء المعروفين في القرن الثاني الهجري المشهور بالزهد والتقوى والعلم، وكان الخليفة المهدي العباسي يرغب في أن يفوض له منصب القضاء، ولكنه كان يرفض ذلك ويتجنب مساعدة الظالم، فضلا عن إنه كان يرفض طلب الخليفة العباسي في أن يكون معلما لأولاده.
وذات يوم أرسل المهدي على شريك، وقال له: لابد أن تجيبني إلى واحدة من ثلاث: إما أن تتولى القضاء، أو تحدّث ولديّ وتعلمهما، أو تأكل معنا أكلة.
فكر شريك في الاختيارات الثلاثة ثم قال: الأكلة أخفهن علي، فأمر المهدي الطباخ بإعداد ألوان من الأطعمة الشهية، فلما فرغ شريك من غذائه قال الطباخ للخليفة: لن ينجو الشيخ بعد هذه الأكلة أبدا!
ولم تمض مدة طويلة حتى ولي شريك منصب القضاء، وصار معلما لأولاد الخليفة وقد عين له مرتبا من بيت المال، وفي يوم ما حدث نزاع بين شريك ومدير المال حول مرتب شريك، فقال له مدير المال: إنك لم تبع برا، فرد شريك: بلى والله لقد بعت أكبر من البر، لقد بعت ديني!
يذكرنا هذا الضال المضل بوعاظ السلاطين حاليا الذين طالما يخرجون علينا بالفضائيات ووسائل الإعلام ويدافعون الدفاع المستميت عن أنظمة فاسدة فاجرة تعيث في الأرض قتلا وظلما ونهبا للثروات وهتكا للحرمات، وفي الوقت نفسه تقف بالتضاد إزاء حركات التحرر الشعبية التي تطالب بحقوقها في العيش بحرية وكرامة دون وصاية وظلم من أحد الأصنام التي يسمونها تارة بالرئيس وأخرى بالملك وثالثة بالأمير ولكنها في حقيقة الأمر تسبح في فلك الأنظمة الشمولية، وكلها عملات لوجه واحد يصدّر إلينا الظلم والتهميش والقهر والتخلف، وإن وعاظ السلاطين يعلمون أكثر من غيرهم إنهم يشترون آخرتهم بدنيا غيرهم، ولكنها الدنيا تعمي قلوب المتزلفين ولم تزد المتقين إلا صلابة وشموخا.
وفي الوجه الآخر قدم عقيل على أخيه الإمام علي عليه السلام أيام خلافته، فقال الإمام لابنه الحسن أكس عمك، فكساه قميصا ورداء من ملابسه الخاصة، فلما حضر العشاء فإذا هو خبز وملح، فقال عقيل: ما هذا فقال الإمام: أوليس هذا من نعمة الله، ولله الحمد، فقال عقيل: أعطني ما أقضي به ديني وعجل سراحي حتى أرحل عنك.
قال الإمام: فكم دينك؟
قال: مائة ألف درهم.
فقال الإمام: لا والله ما هي عندي ولا أملكها؟! ولكن انتظر حتى الصباح كيما يخرج عطائي فأواسيكه، ولولا إنه لابد للعيال من شيء لأعطيتك كله.
فقال عقيل: بيت المال في يدك وأنت تسوفني إلى عطائك، وكم عطاؤك وما عساه يكون لو أعطيته كله؟
فقال الإمام: ما أنا وأنت فيه إلا بمنزلة رجل من المسلمين... وفي ذلك الوقت، كان الإمام علي وعقيل جالسين على مرتفع مشرفين على صناديق أهل السوق، فقال الإمام لأخيه: إن أبيت ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسره وخذ ما فيه، فقال عقيل: وما في هذه الصناديق؟
قال الإمام: فيها أموال التجار.
قال: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله ووضعوا أموالهم فيها؟!
فرد الإمام قائلا: أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلوا على الله فيه؟!
كم نحن بحاجة إلى هذا النمط من الطهارة والنزاهة ولو بنسب متدنية منه لنقضي على موجبات الفساد التي باتت تشكل خطرا كبيرا على الدولة المدنية التي نتوخى جميعا لتثبيت أركانها، نحن بحاجة إلى تلك النمطية في دوائرنا ووزاراتنا ومسؤولينا للحفاظ على خزينة الدولة وتبديدها لما يوفر الأمن والخدمات والرفاه للشعب بدلا من إغارتها من قبل بعض الأحزاب والمتنفذين والمفسدين ومن ورائهم برزخ من وعاظ الدرهم والريال والدينار والدولار، الذين لا يهمهم شيء سوى مصالحهم الشخصية ومصالح الجهات السياسية التي ينتمون إليها، وهذا لعمري مخالف ليس لتعاليم الإسلام فحسب بل مخالف لجميع قوانين الأنظمة المدنية، هذا هو الفرق بين من ينساق وراء نوازع نفسه الأمارة بالسوء فيعيث في الأرض فسادا ويبرر للظالمين ظلمهم وجورهم وطغيانهم، وبين من يتجلبب بجلباب الفضيلة والتقى فيكون طودا شامخا في الشرف والأمانة والعدالة لا تهزه المطامع ولا تغريه زبارج الدنيا الفانية، ديدنه إرضاء الله تعالى وخدمة العباد وكفى بهما حسيبا ورقيبا وعاقبة ومآلا.