- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
بعدَ مرور خمسة وثلاثينَ عاما الرادود الملا حمزة الصغير لا زال شدا المنابر
اشتهرت كربلاء بخدمة الإمام الحسين (عليه السلام) وتميزت تلك الخدمة بتعدد أشكالها كتوزيع العصائر والمشروبات وإقامة المآدب الحسينية كما كانت هناك شعيرة أخرى هي قراءة المراثي وإشاعة المجالس الحسينية فاشتهر البعض من المنشدين والشعراء وبرز المنبر الحسيني كشاهد على خلود الخدمة الحسينية، وتواكب مع كل العصور ليفرز لنا خداما برعوا في مجالسهم، وممن خلدهم التاريخ وتزين بشدا صوته وخدمتهِ، الرادود الكربلائي المرحوم حمزة الزغير.
ولد الملا حمزة عبود إسماعيل (السعدي)عام 1921م في كربلاء بمحلة باب الطاق، واشتهر بــ (حمزة الزغير)؛ وذلك لوجود رادود آخر كان في كربلاء وبنفس الفترة، وهو المرحوم (حمزة السماك)، وكان أكبر منه سناً وأقدم منه في القراءة وأطول منه قامةً، وللتمييز بين الرادودين سُميَ بــ (حمزة الزغير).
نشأ المرحوم في كربلاء لينهل من تراثها الثر، حيث عاش يتيم الأب فأخذت أمه على عاتقها تربيته، علماً إنه الوحيد لأبويه، فدخل الكُتّاب حينذاك، وبدأ حياته العملية فأمتهن العِطارة، وبعدها مارس مهنة بيع الأواني الفافونية، ثم مارس مهنة صناعة الأحذية، فيما كانت آخر مهنة مارسها هي مهنة كيّ الملابس.. وتميز الملا على سائر الرواديد والمنشدين الحسينيين آنذاك فكان مثالاً للتواضع والأخلاق الحسينية العالية المنبثقة من الإيمان، فبالرغم من شهرته الواسعة التي ملأت الآفاق، كان يساعد الصغير والكبير ولا يفرق بين الغني والفقير، فغدت جميع طبقات المجتمع تكنُّ له الاحترام والتقدير.
كما كان بعيداً عن التعامل المادي في قراءاته على المنبر، ولم نسمع يوماً أنه حدَد أو طلب مبلغاً لقراءاته، ليس ذلك فحسب، بل كان مساهماً مادياً في بعض المجالس التي كانت تقام في مدينة كربلاء المقدسة.
الملا حمزة الزغير صوت حي في أسماع المؤمنين
بدأ شبابه مولعاً بحفظ القصائد الحسينية التي كان يلقيها الرواديد آنذاك، ولولعه الشديد بحب القراءة، كان يردد تلك القصائد والأوزان التي كانت تقرأ أثناء عمله وفراغه وتجواله، ولم يُسمع أنه تتلمذ على أحد من قراء المنبر الحسيني آنذاك، وكان يرى في نفسه موهبة وقابلية تؤهله لارتقاء المنبر والقراءة.. وبرز في النصف الثاني من القرن العشرين وكان متفردا بأدائه فهيمن على الساحة الحسينية، ليس في كربلاء وحسب، بل في عموم محافظات البلاد ، وصار علماً من أعلام المنبر الحسيني وأشهرهم استماعا.. حتى صار يضرب له البوق أو البرزان عند قراءته في صحن الإمام علي (عليه السلام).
أما أغلبية القصائد التي قرأها، فكانت لأمير الشعراء الشاعر كاظم المنظور الذي كان يمثل بمعيته، الثنائي الحسيني، ومن الشعراء الذين قرأ لهم أيضا الشاعر كاظم السلامي وعبود غفلة والشاعر هادي القصاب وسعيد الهر والسيد عبد الحسين الشرع ومهدي الأموي صاحب القصيدة المشهورة (أحنه غير حسين ما عدنه وسيلة) ومن المتأخرين الشاعر محمد حمزة والشاعر عبد الرسول الخفاجي وعزيز الكلكاوي وشعراء آخرون..
وقيل عنه إنه كان يرتبط بشكل فطري ارتباطا روحياً بمبادئ الحسين (عليه السلام)، وكان يهمَه أن تكون القصيدة بالمستوى المطلوب في تعريف مضمون القضية الحسينية، وفي جانب آخر فهو يحاول بأكبر قدر ممكن توصيل الأفكار إلى السامع بطريقة سريعة وسلسلة بنفس الوقت دون تعقيد، وبوزن يتماشى مع حرمة المنبر الحسيني، أضف إلى ذلك مراعاة الذوق العام دون الخروج عن المألوف، فكان يعتلي المنابر الحسينية ويتنقل بذلك الصوت الشجي ذي النبرة الحسينية المعّبرة عن مأساة واقعة الطف تدريجياً إلى الشهرة التي استحقها بجدارته المتأصلة في قراءته وأسلوبه، فوصل أوج عظمته في الخمسينيات من القرن العشرين، علماً أنه لم تكن توجد في ذلك الوقت أجهزة صوتية متطورة كالموجودة في الوقت الحاضر، لتزيد من الجمال والحلاوة في الأداء. مرض الملا فترة وجيزة وساءت حالته الصحية، وقرر البعض من الحسينيين إرساله إلى بغداد للعلاج، وكُلفَ الرادود محمد حمزة الكربلائي بالتفرغ من عمله ومرافقته إلى بغداد، وعرض على الطبيب فرقد فيها لإجراء الفحوصات والعلاج لمدة 10 أيام تقريباً وخلال فترة مكوث ملا حمزة الزغير في المستشفى ببغداد كان حال الحسينيين في كربلاء متشنجا ويهفو لاستماع أخبار حسنة عنه . وفي بداية عام 1976 أُشيع خبر مرضه الخبيث، دون أن يعلم؛ وذلك أثر ظهور ورم في أنفه، وكانت هذه البداية حيث أخذ يراجع الأطباء في مدينة كربلاء المقدسة، الذين لم يشخصوا السبب وراء هذا الورم، وأخذوا بإعطائه الكثير من العلاجات والعقاقير الطبية؛ لكن ورمه أخذ بالتزايد دون معرفة السبب. فهمس الطبيب في أذن مرافقيه قائلا: عُد به إلى البيت؛ فلا يعيش أكثر من شهر واحد.. وبعد انتهاء الشهر ساءت حالته لأقصى الحدود، ونقله الحسينيون على وجه السرعة إلى مستشفى كربلاء، ثم وافاه الأجل في يوم الثلاثاء 23 شوال 1396. هـ
أما نبأ وفاته فكان وقعا مؤلما في نفوس الجماهير، حيث أقيم له في كربلاء تشييع حسيني يليق به وبمكانته وكانت مدينة كربلاء عصر ذلك اليوم المؤلم في حزن وأسى، إذ تعطلت جميع المحلات وتعتم ضياؤها في تلك الليلة، وأخذ موكب التشييع طريقه صَوْبَ مرقَد الإمام الحسين (عليه السلام) وبعد انتهاء مراسيم الزيارة في مرقد سيدنا العباس (عليه السلام)، حمل الى مثواه الأخير.. في وادي كربلاء.. ووصل أهالي كربلاء الى ساعة التوديع وتلون التوديع بالبكاء والنحيب واعتلت مكبرات الصوت بقصيدة الملا المحروم وهو يقرأ (شلون ليلة توادع حسين العقيلة)
ومما قيل في رثائه ما أرخه الأديب محمد زمان بهذا البيت:
أرختُ يا طفُّ واساكِ الحسينيُّ قد مات حمزةُ لكنْ صوتهُ حيُّ
واليوم تحل ذكرى وفاته الخمسة والثلاثين التي تمرُّ على كربلاء التي ما انفكت من ذكرى تأبينه ورثاءه فهو صوت حيّ يشدوا مسامع محرم في كل عام..