عندما دعاني صديقي السياسي الى مهرجان خطابي لنصرة غزة قبل ايام ، لم أجد في نفسي الحماسة للمشاركة . ربما بسبب ذاكرتي - كما باقي العراقيين – المثقلة بمشاهد التظاهرات والمهرجانات الخاصة بـ “القضايا الكبرى” وعلى راسها فلسطين .
كنا نساق الى تلك المظاهرات لنهتف مطالبين بتحرير فلسطين ورفع الحيف عن اهلها ، لكن النظام ذاته كان يذبحنا بالجملة ، ويخنق انفاس من يبقى على قيد الحياة . كنا نساق الى جيش يحمل اسم القدس لكن مهمته الوحيدة قمع الناس واقتحام بيوتهم من السطوح بملابس سوداء تغطي حتى الوجه . كنا تلاميذ في المتوسطة عندما كنا نجبَر على دفع مصروفنا اليومي لشراء طوابع دعم فلسطين (أوائل السبعينات) . كان ابناؤنا وإخوتنا يتركون مقاعد الدراسة من أجل العمل وسد قوت أهلهم فيما كان الطلبة الفلسطينيون والعرب يدرسون في جامعاتنا مجانا ويحصلون على راتب شهري لا يناله أغلب العراقيين . كان النظام يذبح أهلنا وينتهك أعراضنا ويصادر ممتلكاتنا ويمعن في تجويعنا فيما كان يدفع لعائلة كل فلسطيني يسقط بيد الاسرائيليين مبلغا يكفي لاطعام عشرات العوائل العراقية المنهكة بالحصار لمدة عام ، أو يكفي لشراء بيت كبير في بغداد انذاك .
عندما كنا نطرح معاناة أهلنا في المحافل والمنتديات السياسية والعربية ، كان أخوتنا العرب وفي مقدمهم الفلسطينيون يواجهوننا بالتخوين وخذلان “القائد البطل” والسعي لتشويه سمعته “ خدمة للاستعمار والامبريالية والصهيونية “ . وعندما سقط النظام في بغداد عم الحزن والاسى الاراضي الفلسطينية وأصبح الشعب العراقي الذي كان باغلبيته سعيدا بزوال ذاك النظام ، عميلا خائنا . وعندما قتل إبنا الرئيس الساقط ،أقام الفلسطينيون الحاكمون في غزة اليوم مجالس التأبين ورفعت اللافتات السوداء وخرجت التظاهرات رافعة صور الاب والابنين ، وتكرر الامر عندما نفذ الحكم العادل بحق صدام بعد محاكمة طويلة وشفافة لم تشهد لها الدول العربية مثيلا .
تذكرت كل هذا وغيره أكثر وانا استمع الى “موعظة” كان يقدمها صديقي السياسي وهو يدعوني الى مهرجانه الخطابي لدعم غزة . كان يقول: كان هذا في الماضي ، أما اليوم فقد تغيّر كل شيء . لقد عرفوا الحقيقة . وعلينا ان نعيد الوصل مع اخوتنا العرب والفلسطينيين لنسد الطريق أمام من يريد عزلنا عن محيطنا العربي . لم يمر يوم واحد على ذاك المهرجان حتى سمعنا ان اتحاد الكتاب العرب رفض مجددا عودة العراق اليه بدعوى ان الاتحاد العراقي تابع للحكومة ، والاخيرة“ مشكلة في ظل الاحتلال وبالتالي عميلة له” . وفي مقدمة الرافضين الوفد الفلسطيني “ ، الذي ياتي من منطقة خاضعة للاحتلال الحقيقي وبكل التفاصيل . اللافت ان الوفد العراقي وكما سمعت من احد أفراده كان يجهد لتقديم الدليل على ان الاتحاد لا علاقة له بالحكومة . هذا يعني تأييد ادعاءات اولئك ورأيهم بالعملية السياسية التي تنتج الحكومة عندنا والتي لا نظير لها في منطقتنا العربية .
اتصلت بصديقي المتحمس لاعادة ظاهرة الضجيج الفارغ باسم “القضايا الكبرى والمصيرية “ لأساله عن رأيه بما جرى . كان محبطا شبه يائس . قال: ماذا يريد هؤلاء منا ؟ هم يدفعوننا الى الابتعاد عنهم ثم يتهموننا بالانعزال عن محيطنا العربي .لم أعلق بل اكتفيت برده هذا الذي يقدم جانبا من الحقيقة .
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- القصف الذي أراح بايدن
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى