في عالمنا المتناقض التفاصيل, المتقلب الظروف والأحوال, هناك مدن تحتضر, وأخرى تنبعث من الرماد, وثالثة تنهار, وترزح تحت وطأة الإهمال, وربما لا يشفع لها سجلها الحافل بالخيرات والعطايا في عصورها الذهبية. وهكذا كان مصير دار السلام, التي مزقتها خناجر الإخوة الأعداء, وعصفت بها رياح الصراعات السياسية, ونهشتها أنياب الدهر, فانطفأت شعلتها, وذهب بريقها.
كانت بعداد بتاريخها الزاهر, ومستقبلها الباهر, وحضارتها المجيدة, وآثارها التليدة, دار السلام, وقبة الإسلام, وغرة البلدان, وعين العراق, ودار الخلافة, ومجمع المحاسن والطيبات, ومنبع الجود والكرم.
قالوا: إنها دار الدنيا بكل محاسنها, وقالوا: أنها جنة الأرض, وإنها معبر العرب, ومدينة العلم, ونزهة الأمصار, ومرفأ الحكمة والفضيلة, وعنوان الفنون والآداب, وهي المدينة التي قارعت الأحداث وقارعتها, وقاومت عاديات الزمن وقاومتها, ورأت من المصائب والعجائب ما لم تشهده عواصم الدنيا كلها, فما من مدينة انفردت بشهرة واسعة وذاع صيتها في الآفاق مثل بغداد, لكنها هبطت للأسف الشديد عام 2010 في اختبارات المعايير الدولية التي ابتكرتها مؤسسة (ميرسر Mercer) للموارد البشرية, وحلت في المرتبة الأخيرة للعام الثالث على التوالي, وجاءت في المركز (221), وعدت من أقبح مدن العالم وأكثرها بشاعة, وحصلت على 14,5 نقطة فقط, وجاءت مدن الكونغو برازافيل, وبانغي في أفريقيا الوسطى قبل العاصمة بغداد في الترتيب الدولي.
نتائج تبعث على الأسى والحزن والحسرة على دار السلام, التي بلغت قمة مجدها ومنتهى فخارها, على امتداد تاريخها الطويل, وامتدت أبنيتها في الكرخ والرصافة امتدادا عظيما, حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة, وبلغ عدد المكتبات فيها المئات, وبلغ الترف فيها مبلغا عظيما حتى قدر عدد الحمامات فيها في القرن الثالث الهجري حوالي عشرة آلاف حمام.
لقد تربعت العاصمة النمساوية (فيينا) على عرش المدن العالمية, وتبوأت المرتبة الأولى بكل جدارة واستحقاق, وحلت (دبي) في المركز 75, والمنامة في المركز 80, وتونس 94, ومسقط 100, والدوحة في المرتبة 110, والرباط 112, والرياض 114, وجدة 130, وهكذا صارت دبي سيدة مدننا, وتفوقت على بغداد وعلى العواصم العربية الأخرى.
ومن الطريف أن نذكر: إن الشاعر العراقي الملا عبود الكرخي جلس ذات يوم على ضفاف الكرخ, قبل ستين عاما, ليقرأ قصيدته الساخرة التي كانت تكرارا لمتوالية لفظية تشتمل على مجموعة من التساؤلات المتناقضة المحلقة في فضاءات المستحيل, نذكر منها هذه الأبيات, التي يقول فيها:
إيصير واحد تك رجل صار انضباط ؟
إيصير من تيس الصخل نحلب حليب ؟
إيصير هرفي من الغنم يفترس ذيب ؟
إيصير أبو الجنيب ما يمشي صفح ؟
إيصير بالدنيا خصي وعنده ولد ؟
إيصير من لندن تجي مجارية ؟
إيصير تمشي سافرة الحجية ؟
إيصير بدبي مدرسة حربية ؟؟
دعونا الآن نمعن النظر في البيت الأخير, الذي يؤرخ فيه الكرخي الوضع البائس, الذي كانت تعيشه مدينة دبي في خمسينات القرن الماضي, وكيف كانت مضرب الأمثال في الفقر والتخلف, وكان الكرخي محقا وقتذاك عندما أكد على استحالة فتح مدرسة حربية في دبي بحيث تكون متخصصة بتطوير المهارات القتالية, وظل هذا البيت مجهولا في هذه القصيدة الشعبية القديمة, من دون أن يطلع عليه أهل دبي, ثم دارت الأهلة دورتها, وشاءت الأقدار أن تضطر بغداد قبل بضعة أعوام إلى إرسال نخبة من أبناء الكرخ للتدريب في دبي على الفنون الحربية, فسبحان مغيّر الأحوال.
صارت دبي اليوم على كل لسان, وتحول اسمها في اللهجة الانجليزية الدارجة من اسم (Noun) إلى فعل (Verb), وتشعبت استخداماته في النشاطات التي ازدهرت بها هذه المدينة المتفوقة على المدن العربية كلها, وصار (برج العرب) رمزا لشموخها المعماري بتصميمه الهندسي الرائع, وتمددت دبي في بحرها الإقليمي, وشيدت أجمل الجزر الصناعية, وتميزت بعوالمها التجارية والمينائية والإنتاجية والخدمية والترفيهية والرياضية والأمنية.
تخصصت مؤسسة (ميرسر Mercer) www.imercer.com بمراقبة الظروف المعيشة, وتقييم جودة الحياة في كُبريات مُدن العالم, واعتمدت في تقييمها السنوي على 39 معيارا قياسيا مصنفا في عشر فئات, هي:
1. الظروف السياسية والاجتماعية (الاستقرار السياسي, الأوضاع الأمنية, معدلات الجريمة, سلطة القانون, معدلات الفقر والبطالة, نوعية الرعاية الاجتماعية, الخ).
2. الظروف الاقتصادية (قوانين صرف العملات, الخدمات المصرفية, المعاملات المالية, الخ).
3. الظروف الثقافية (الرقابة والقيود المفروضة على الحريات الشخصية, الخ).
4. الصحة والنظافة (الخدمات الطبية, الأمراض المعدية, مياه الصرف الصحي, التخلص من النفايات, التلوث البيئي, الخ).
5. التربية والتعليم والأوضاع العامة في المدارس والجامعات.
6. الخدمات العامة والنقل (الكهرباء, الماء, المواصلات العامة, الازدحام المروري, الخ).
7. الترفيه (المسارح, دور السينما, المقاهي, المطاعم, الرياضة والهوايات, الخ).
8. السلع الاستهلاكية (توافر الأطعمة والمواد الاستهلاكية, السيارات, الخ).
9. الإسكان (السكن, الأجهزة المنزلية, الأثاث, خدمات الصيانة, الخ).
10. سجلات الكوارث (كوارث طبيعية, انفجارات, صراعات عسكرية, مواجهات مدمرة, الخ).
يعد مقياس (ميرسر) لتقييم جودة الحياة أداة لمقارنة مستويات الرعاية الاجتماعية, ومستويات ظروف المعيشة التي تقدمها عواصم العالم للموظفين والطلاب والمتقاعدين والعاجزين عن العمل, وتسعى هذه المؤسسة من خلال مسوحاتها السنوية إلى تقديم الدعم والإسناد للحكومات الراغبة بتحسين ظروفها نحو الأفضل.
ختاما نقول إن مدينة بعظمة بغداد وشهرتها, ولها هذا العمق من الحضارة والتاريخ, لابد لها أن تجتاز نفق الإرهاب الأعمى, ولابد لها أن تسترد مجدها التليد, وستبقى بغداد كما كانت عاصمة الدنيا ومنارة الحضارة الإنسانية.
سقى الله صوب الغاديات محلة ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر
هي البلدة الحسناء خصت لأهلها بأشياء لم يجمعن مذ كن في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحة وماء له طعم ألذ من الخمر
بغداد يا دار النهى
والفن يا بيت القصيد
نبت القريض على ضفافك
بين أفنان الورود
يشدو كأن لهاته
شُدت على أوتار عود
يا بسمة لما تزل
زهراء في ثغر الخلود
يا سطر مجد للعروبة
خُط في لوح الوجود
يا بنت دجلة قد ظمئت
لرشف مبسمك البرود
ستظل بغداد متألقة متأنقة متجددة دوما وأبدا, صابرة صامدة على مر العصور, متحدية المحن, وعاديات الزمن, تنفض عنها غبار الكوارث المتلاحقة, وستتفجر بالطيبات, وتنبثق بالخيرات, وستبقى رمزا خالدا لكل ما هو جميل ونفيس ورائع وبديع وأصيل.
أقرأ ايضاً
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- من يُنعش بغداد ؟
- المسؤولية المدنية المترتبة عن استخدام الذكاء الاصطناعي