بعد الاحتلال الأميركي، عفوا التحرير العظيم، أطلق المحررون العنان للإعلام العراقي، حتى خاض أحياناً في خصوصيات لا يسمح بها القانون الأميركي ولا قانون الإعلام في جزر الواق واق، لكن المحررين الأجلاء ليؤكدوا أبعاد الحرية المتحققة للعراق فسحوا المجال لمن يكتب أو يشتم أو...الخ.
ولم تكن معاناة العراقيين على رأس اهتمامات الإعلاميين باستثناء قلة منهم، لكن وسائل الإعلام الأميركية كشفت جرائم انتهاك حقوق الإنسان وحرمته الشخصية في أبوغريب وبقية جرائم قوات التحرير. وكذلك الحال بالنسبة لطبيعة الفساد المالي والإداري، سواء في ما يتعلق بالأموال الأميركية لإعادة اعمار العراق المختفية في ظل بريمر، أو سلب السلطات المحلية لأموال أميركية وعراقية. والأميركيون وحدهم الذين كشفوا عن اختفاء ما يتراوح ما بين 15-20 مليار دولار من أموال إعادة الأعمار. لكن خفايا كثيرة لم تكشف مثل الأفواج الصورية في الجيش والشرطة التي ابتلعت رواتبها ومخصصاتها وأسلحتها، إلى جانب شحنات مكونات البطاقة التموينية الواصلة والمفرغة ورقياً أيضاً، دون أن تمتد التحقيقات إلى وزارة النقل التي كانت تشحن وتفرغ على الورق الكثير من المواد دون رقيب أو حسيب.
وقد حكم القضاء العراقي على وكيل وزارة النقل بالسجن ثماني سنوات لتلبسه بجريمة الرشوة، والمهم ملاحظته هو أن الدعوى كان مصدرها أيضاً جهة أجنبية أبلغت عن ابتزاز المدان لها. ويبدو أن الجهات الأجنبية وحدها التي تعرف كيف تحرك الأمور وتوصلها إلى النتيجة المطلوبة، فهي توثق وتمكن من القبض على المتهم متلبساً، دون أن تحول قضيتها إلى ضجة إعلامية تنبه المتهمين، أو تسيس الفساد. وهذا يؤشر أهمية توظيف الالتزام الدستوري والقانوني للجميع بالنزاهة في حشد اصطفاف سياسي واسع لملاحقة المجرمين بدون محاولة تسقيط الخصوم.
وقد يكون النائب صباح الساعدي رئيس لجنة النزاهة في مجلس النواب خطيباً متحمساً في طرح المخالفات والتجاوزات والتحركات الخفية المريبة، لكنه مع الأسف في الأصل أستند على وثائق محدودة، دون بحث أعمق، كما فعلت هيئة النزاهة بشأن شكوى ابتزاز الشركة الأمنية وتوفير أدلة مادية لا تدحض، أو ما بذلته وسائل الإعلام الأجنبية لكشف شبكات الفساد الأميركية العراقية.
إن المأساة في كل نشاط محاربة الفساد المالي والإداري التوجه العام إلى تسييس أية ملاحقة حتى قبل استكمال المستلزمات التحقيقية، وهو الأمر الذي يمزق الجهود التي تقع على عاتق كل الأطراف والمكونات السياسية، ضمنها جهود الطرف الذي ينتسب له المشتبه به، ومن ثم لا نجني سوى الضجة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان والمال العام، ويظل المسيئون يمرحون مستفيدين من التناحر السياسي والاحتماء به لتخفيف وطأة الملاحقة.
أقرأ ايضاً
- الفساد العلمي بوابة تحول المعرفة إلى سلاح في يد الفاسدين
- الضرب على رؤوس كبار الفاسدين
- مكافحة الفساد لا يولد من رحم الفاسدين