منذ ست سنوات وحمى الاستكلاب الإرهابي التكفيري القاعدي ـ الوهابي والبعثي ـ الصدامي لم تزل مستعرة ولحد الآن وان يعتورها بعض الفتور في بعض الأحيان فإنه لالتقاط الأنفاس ولملمة الصفوف وإعادة الترتيبات التكتيكية واللوجستية المتعلقة بالعمليات الإرهابية وإحداث \"طفرات\" نوعية فيها لإيقاع اكبر عدد من الضحايا الأبرياء ولإرباك الفعاليات السياسية في مسلسل مكشوف ومفضوح الإستراتيجية الهدف منه إرجاع العراق وشعبه إلى المربع الأول وتدمير جميع المكتسبات التي نيلت بالتضحيات الجسام عبر عقود من النضال ضد الديكتاتورية المقيتة ، وهذه إستراتيجية تتوالف فيها قوى إقليمية وبعض القوى المحلية (حواضن ومرتكزات تنفيذ) وجدت نفسها خارج نطاق صنع القرار الذي احتكرته قسرا.
وفي أتون حمى الإرهاب وغمرة الأعمال الإرهابية شبه اليومية والتي تتصاعد وتائرها بين فترة وأخرى متسببة بسقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى وتهديم البنى التحتية ومنازل المواطنين (خاصة في المناطق الفقيرة والمحرومة ) وبإضافة أرقام أخرى الى سجلات أيتام العراق التي صارت \"مفتوحة\" وغير قابلة ـ كما يبدوـ للغلق ، وترميل النساء وإعاقة مالا يحصى من الناس بكل أنواع العوق النفسي والجسدي..في هكذا أجواء تفوح منها روائح الموت والمأساة تتصاعد في المقابل \"وتائر\" أخرى كرد فعل \"مواز ٍ\" ومعاكس ألا وهي صيحات الاستنكار والتنديد والشجب والإدانة والرفض القاطع داخل وخارج البلد من شخصيات ومؤسسات ومنتديات ووزارات وهيئات وتجمعات وغيرها مقابل هذه الأعمال البربرية التي تنكرها جميع الأديان والقيم والأخلاق والأعراف والنظم، ولا يخلو الكثير من هذه الاستنكارات من تعاطف صادق وتفاعل حقيقي مع التصاعد الدراماتيكي الدموي والمأساوي لتلك الأحداث كما لا يخلو البعض منها من أسلوب المجاملة و\"الاتكيت\" الذي يفرض على المسؤولين ان \"يستنكروا\" ويشجبوا مرغمين من باب الواجب المطلوب إجراؤه في هكذا أمور...
وهكذا نرى إن عبارات الاستنكار جاهزة في القالب وفي المعنى وبصيغ لغوية تكاد تكون متشابهة او متقاربة كأنها كانت تنتظر \"المناسبة \" كي تنطلق من عقالها لتمتلئ بها جميع صفحات وسائل الإعلام وما تلبث أن تنتهي او تتبخر بعد انتهاء الشد النفسي الذي تتركه \"الصدمة\" الناتجة عن الحدث وتذهب معها المأساة الى خانة النسيان ويبقى المتضررون وحدهم يلعقون مرارة أحزانهم وجراحاتهم .
والكثير من صيحات الاستنكار لا تخلو أيضا من المصداقية والتعاطف والتفجع والتأثر النفسي البالغ تجاه الآثار المروعة التي تتركها الأعمال الإرهابية وآثار الدماء وأشلاء الضحايا وصرخات ذوي الضحايا ولا يشكك احد في ان السلسلة اللامتناهية من عبارات الشجب والاستنكار هي عبارة عن رد فعل طبيعي تمثل في واقع الحال الحد الأدنى للتعبير عن مشاعر الحزن والأسى والأسف تجاه جرائم كبرى تحدث وسط صمت أشبه بصمت القبور من بعض \"الأشقاء\" وتشفي البعض الآخر منهم ووسط استنكارات خجولة ومتحفظة في الوقت نفسه من قبل آخرين جاء بعضها للدعاية أو التسويق الإعلامي او لتطعيم نشرات الأخبار بمادة \"دسمة\" عن المصائب والويلات العراقية ولخلق شيء من \"الإثارة\" الخبرية وكسر الجمود والرتابة وكسب اكبر عدد من المشاهدين وليس كرد فعل إنساني تجاه جرائم كبرى بحق الإنسانية (الإنسان العراقي) ! وعلى ارض العراق التي قدر لها ان تبتلى وعلى مدار التاريخ بالمستعمرين والمحتلين و\"الفاتحين\" والطواغيت والمستبدين والفاسدين والمفسدين والشامتين والمتفرجين كما قدر لها ان تبتلى بالإرهابيين والتكفيريين السلفيين والوهابيين خوارج هذا العصر وبالبعثيين العفلقيين الداء العضال الذي مازال ينخر بجسد الأمة العراقية.
وعلى مدار السنين الست السابقة شاعت ثقافة الاستنكار وفي جميع الأوساط النخبوية والشعبية والجماهيرية والإعلامية والحزبية حتى غدت هوسا لا معنى له او إجراء لا تجنى منه أية فائدة سوى إجراء \"اللازم\" وبميكانيكية روتينية فجة وأداء الواجب وإبراز تأثر المسؤول الفلاني او العلاني ممن هو بعيد عن هذه المعمعات ومحصن بكل أنواع التحصينات تجاه مآس ٍ يبدو الاستنكار أمامها مجرد كلام فارغ المحتوى ومشاعر مستهلكة وواجب في غير محله وتغدو جميع الكلمات أمام هذه الفواجع والمواجع والكوارث ودموع الأمهات والثكالى وصراخ الأيتام والبيوت التي انهدمت على من فيها جدلا تافها لا يغني ولا يسمن من جوع ومن العيب بعد ألان أن يخرج أي \"مسؤول\" عراقي وفي جميع المستويات من المسؤولية ليعرب عن \"استنكاره\" و\"أسفه\" لهذا الحادث الإرهابي او ذاك فالشهداء والضحايا غير محتاجين إلى جعجعة فارغة من مسؤولين لعملية سياسية خاوية على عروشها .
اعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- لن يعيد الاستنكار حياتهم / امن البلد الى اين ؟؟؟؟؟؟
- حادثة المطار واسطوانة الاتهامات الفارغة
- ديالكتيك !