دول الجوار العراقي لم تكن غائبة في يوم من الأيام عن حيثيات وتداعيات المشهد العراقي ابتداء من دخوله في منظومة الحقبة العثمانية المظلمة التي دامت أكثر من أربعة قرون عاش فيها العراقيون حياة الكهوف ومرورا بالحقبة الديكتاتورية التي جعلت العراق يتدحرج عن موقعه المفصلي ليكون في آخر خانة لدول العالم الثالث وانتهاء بالحقبة التي أعقبت سقوط الديكتاتوريات وأفول عصرها الذي امتد عقودا طوالا ضرس فيها العراقيون الحصرم فيما حصد \"الآخرون\" العنب من السلة العراقية ذاتها التي كانت يوما ما ارض السواد ... و\"الآخرون\" هم الصاعدون على أكتاف الجيوبوليتيك والذين جنوا ثمار محورية العراق ومفصليته وتعكزوا على إستراتيجيته كينونة ً ووجودا ودورا إقليميا فاعلا منذ فجر التاريخ، وقد تجلت محنة العراق من امتيازاته الجيوبوليتيكية منذ القدم ومن خلال تفرده في موقعه الجغرافي الإستراتيجي ووقوعه في قلب الشرق الأوسط وبخصائصه الطبوغرافية والديموغرافية وثرواته التي لا تعد ولا تحصى خاصة النفط ....
الجغرافية السياسية العراقية فيها الكثير من التمايز كونها محددة بإطار جيوـ سياسي يميزها عن الكثير من المشاهد الإقليمية وقد بدا هذا أكثر حدة ووضوحا وتناقضا ايضا بعد سقوط نظام صدام لان تداعيات المشهد العراقي جعلت من العراق أكثر تمايزا من ذي قبل وأكثر \"محنة\" جيوبوليتيكيا من السابق يضاف الى ذلك غرائبية التصور الإقليمي (العرب وغيرهم) وعجائبية التوجه السلبي الصادر من بعض دول الإطار العراقي في عدم التعامل مع الشأن العراقي بموجب قواعد القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار تجاه عراق مابعد صدام حسين، الأمر الذي شكل شيزوفرينيا مقصودة في سياق ذلك التعامل ولذات التصور آنف الذكر عبر مرحلتين تمثل الأولى ماقبل غزو الكويت ( آب /1990) والثانية بعد مرحلة الغزو وتحرير الكويت (آذار 1991) وما شهدته المنطقة من سلسلة التداعيات الخطيرة وعلى كافة الأصعدة ومن جملتها حالة انفراط عقد العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين العراق وبين مجمل دول الجوار ووصولها أدنى مرتبة وانقضاء \"شهر العسل\" الذي كانت تعيشه تلك العلاقات سيما أثناء حرب الخليج الأولى (1980 ـ 1988) والتي اتسمت علاقات العراق مع دول الجوار فيها بالتذبذب مرة او البرود في أحسن تقدير وبين الاندفاع الكلي بهوس \"قومي\" تغلفه ارتباطات لا تلبث ان تتحول الى عداوات لكون ان هذه العلاقات لم تكن مبنية على أسس وطنية وقواعد سياسية صحيحة وعلى مقاربات الاحترام المتبادل ولم تؤخذ فيها مصالح الشعوب بالدرجة الأساس وما كان يميز هذه المرحلة وقوع العراق في سياقات دوائر الاصطراع العالمي وتأثره بنتائج الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي والتجاذبات الدولية حول منطقة الشرق الأوسط ..
كما لم يكن المشهد العراقي بمنأى عن مجمل التأثيرات والمؤثرات الدولية والإقليمية ومنها تأثيرات دول الجوار (دول الخليج بالأخص) وفي المقابل لم يكن تفاعل العراق مع تلك الدول تفاعلا حقيقيا بل كان في معظمه تفاعلا يشوبه الحذر والتشكيك خاصة إبان الحقبة البعثية وفوران التوجه القومي المندفع تارة والمتقهقر تارة اخرى ليس مع دول الجوار فحسب بل ومع عموم المجتمع الدولي ويتجسد ذلك في المرحلة التي أعقبت غزو الكويت تلك الحماقة الصبيانية التي أدخلت العراق وشعبه مرحلة \"الطلاق البائن\" مع الأسرة الدولية ودخوله قسريا تحت طائلة العقوبات الأممية التي نفذت لأول مرة في التاريخ ضد شعب من الشعوب فيما دخل العراق عزلة دولية وإقليمية (دول الجوار ) خانقة وقد كان لهذه الدول دور أكثر سلبية من غيرها مع تمتعها أكثر من غيرها بالمزايا والامتيازات الجيوبوليتيكية من العراق وشعبه الذي كان ومازال يتفوق على شعوب المنطقة حضاريا ومعرفيا .
ويبدو ان الأخطاء التي ارتكبت في عهود الديكتاتورية قد شكلت \"فوبيا\" مزمنة لدى بعض هذه الدول وأسست أكثر من عقدة ورد فعل عكسي وصار التعامل مع العراق يشوبه الحذر والقلق كما انحدرت القيمة الإستراتيجية للبلد بسبب تلك الأخطاء، وعلى سبيل المثال معاناة الشعب العراقي أثناء \"الحصار\" الدولي الذي فرض عليه جراء غزو نظام صدام للكويت الى درجة جعلت من العراق ان يعتمد بشكل أساس لإدارة شؤونه ومفاصل حياته على \"منافذ\" او \"دول\" هي اقل منه درجة ومحورية وفاعلية وقيمة جيوبوليتيكية ، الامر الذي جعل بعض \"القوى\" التي لا يحسب لها وزن قياسا الى وزن وثقل العراق ان تبرز بخطى عملاقة محققة طفرات تنموية واقتصادية ما كان لها ان تحققها لو كان العراق قد بقي متصدرا الواجهة الإقليمية والعربية وحتى القارية ومؤديا دوره التاريخي اللائق به .. ولكن بعد تغيير نيسان (2003) وسقوط العقدة السرطانية التي كانت تهدد حاضر ومستقبل العراق والمنطقة في آن واحد كان من المفترض ان يعود العراق الى الساحة الإقليمية والعربية متبوئا موقعه الجيوبوليتيكي ضمن المنظومة الإقليمية والعربية وبدوره الفعال الذي يليق بمستواه وثقله ..وكان من المفترض ايضا وفي سياق المصالح المشتركة بين دول الجوار (والإقليمية) ان يتم فتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي المؤلمة للجميع والتي لم يكن الشعب العراقي مسؤولا عن تداعياتها وآثارها ولطالما اكتوى بها قبل ان يكتوي بها الآخرون كما دفع ثمنها الباهظ بملايين الشهداء ... صفحة جديدة مع الشعب العراقي أولا بإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية متوازنة ومبنية على أسس من المصالح المشتركة كما فعلت ذلك الكثير من دول العالم التي بادرت الى إعادة العلاقات مع بغداد وفتح سفاراتها وممثلياتها فضلا عن إطفائها معظم ديونها المترتبة على العراق بغض النظر عن طبيعة تلك الديون مساهمة منها في التواصل مع الشعب العراقي ورفع جزء من معاناته وعدم أخذه بجريرة غيره او معاقبته على أخطاء لم يرتكبها يضاف الى ذلك احتضان الكثير من دول العالم لملايين العراقيين المهجرين والمهجرين والنازحين جراء العمليات الإرهابية التي أحرقت الأخضر واليابس وغير خافٍ عن القاصي والداني ان مجمل تلك العمليات كانت إما بغض النظر من قبل إطراف إقليمية (دول الجوار) او بمساهمتها الفاعلة لوجستيا وتكتيكيا وماديا وإفتائيا وإعلاميا وغير ذلك للمجاميع الإرهابية التي حاولت إكمال مشوار الديكتاتورية في العراق بتحويله الى ارض محروقة وخراب بلقع ولم يكف ان تلك الأطراف كانت في طليعة من وقف مع صدام حسين في حروبه ونزواته وفي قمعه واضطهاده لشعبه من خلال الدعم اللامحدود الذي تحول فيما بعد الى \"ديون\" ترتبت ان يدفعها العراقيون من قوت أطفالهم في محاولة لمعاقبة الشعب العراقي والرقص على جراحه ...
ومعاقبته ايضا على اختياره الحر المتمثل بالعملية السياسية التي بنيت وفق أسس ديمقراطية جاءت بحكومة منتخبة وفي أجواء من الحرية السياسية والحزبية والعقائدية لا تتوفر في اغلب دول المنطقة خاصة التي تجاور تخوم العراق وهذا ما يضفي حالة من التناشز الواضح بين المشهد العراقي وغيره من المشاهد ما اوقع العراق مرة أخرى في محنة جيوبوليتيكية سببها ان هذه الدول قد استفاقت من غيبوبة التعايش من وضع هلامي معتم ادخل فيه العراق عنوة بل وساهمت بعض تلك الدول في إدخال العراق في ذلك النفق، ولم يرَ النور إلا صبيحة التاسع من نيسان (2003) ومازالت بعض تلك الأطراف تتمنى ان يبقى العراق داخل هذا النفق لكن العراق انعتق من هذا العقال باتجاه استحقاقه الذي غاب عنه طويلا وسيأتي اليوم الذي تدرك هذه الدول تلك الحقيقة وستدرك ان المبادرات التي أطلقها العراق للم الشمل وتصحيح الأوضاع كانت فرصا ثمينة جدا ما كان لها ان تضيعها لأسباب لم تعد خافية على احد فإن كان العراق قد عاش محنة الجيوبوليتيك ومرارته فان تلك الدول قد وضعت نفسها في مطباته وضيعت على نفسها فرصة الوقوف جنبا لجنب مع العراق العظيم ..
اعلامي وكاتب
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي