يبدو ان التحرك البرلماني الأخير او بالمعنى الأدق الحراك الذي جاء متأخرا في استجواب \"استضافة \" بعض كبار المسؤولين ومنهم وزراء قد أثار اهتماما شعبيا وجماهيريا وإعلاميا واسعا وغير مسبوق ولأسباب عديدة منها ان الوزراء او المسؤولين المعنيين بالاستجواب وبآلياته ونتائجه فضلا عن أسبابه ودواعيه هم اقرب بعض الشيء من هموم الشارع العراقي واهتماماته كونهم من انيطت بهم مسؤوليات اقتصادية ومالية وأمنية تدخل في صميم حياة الناس ومعاناتهم وفي بعض الأحيان يكون لهذه المسؤوليات مساس مباشر ببؤسهم وشقائهم ..
ومن الممكن ان نعد هذا الحراك وعن طريق تفعيل آلية استدعاء المسؤولين واستجوابهم، مقياسا نوعيا لعمل وأداء السلطة التنفيذية وخارطة طريق مستقبلية لتفعيل الدور الرقابي للبرلمان القادم ومن المؤمل أن لا يكون هذا الحراك مرحليا وضمن إجراءات وقتية لإغراض الدعاية الانتخابية او لمصالح شخصية مبيتة بل يجب أن يكون ممتدا ليشمل كل فصول البرلمان ودوراته التشريعية وذا اذرع تطول كل مفاصل الدولة العراقية وأجهزتها وهياكلها ودون محاباة او مجاملة او خوف ومدعما بالوثائق الثبوتية والأدلة والبراهين الملموسة وشهود عدول وأكفاء وبدون قصدية او كيدية وليشمل الاستجواب المتوخى التدرج الهرمي لأية وزارة او مؤسسة معنية ..
ومن هذا المنطلق يفترض أيضا ان تكون اللجنة النيابية (لجنة النزاهة) المكلفة بآليات الاستجواب ان تتمتع بقسط كبير من الاستقلالية او مستقلة بالقدر الممكن ومن الكادر البعيد عن المحاصصات او التوافقات او التجاذبات كي لا تكون هذه اللجنة محط شبهات التسييس وفقا للمقاربات التي جعلت من المحاصصة إحدى الركائز التي بنيت عليها العملية السياسية وعلى أساسها تم تشكيل الصورة الحالية للبرلمان العراقي فيكون بموجب هذه الصورة عمل لجنة النزاهة البرلمانية ضمن آليات التأثر والتأثير التحاصصي وليس بموجب آلية المهنية والموضوعية والتي بموجبها تفرز الحالات السلبية لغرض معالجتها وتقويمها فيكون هذا الإجراء احد الأمور الكفيلة بدفع الشبهات وضد أية \"حجة\" من الممكن ان يتخذها الشخص المراد استجوابه ضد اللجنة المكلفة بالاستجواب سيما إذا كانت ضمن كتلة او كتل سياسية مناوئة ...
وكما هو معمول به في العالم المتمدن يفترض أيضا أن تحدد آلية وبرامج الاستجواب بان يكون على شكل استضافة وليس استجوابا بالمعنى الحرفي للكلمة وبأساليب حضارية متقدمة تليق بالشخص المستجوب وبمركزه الرسمي وبالسلطة التشريعية نفسها (البرلمان) وبعيدا عن الطرح البوليسي والأساليب المخابراتية الاستفزازية وبعيدا عن الطرح الكيدي والنفس التسقيطي والذي قد يخرج \"الاستجواب\" عن نطاقه الرقابي والمهني البحت إلى محاولات غايتها إحراج المسؤول وإيقاعه في حلبة الجدل العقيم وحشره في شباك المهاترات الكلامية بدون فائدة سوى الثرثرة الفارغة مما يفقد البرلمان رزانته ودوره الرقابي الحساس في قيادة دفة التشريع في البلاد ويجعله متجاوزا على بقية السلطات بدون وجه حق ..
ان الهدف المتوخى كحصيلة نهائية هو المواطن بالدرجة الأساس من خلال وضع البرلمان على الطريق الصحيح وليس الهدف هو الاستجوابات التي قد تكون في اغلبها حامية الوطيس وذات سفسطة قد تطول وتنتهي بما لا يحمد عقباه فإن كان البرلمان قد وضع نفسه ـ في آخر المطاف ــ في الطريق الذي كان يجب أن يكون منذ بداية مشاوره قبل ما يقرب من أربع سنين فانه ربما سيكشف عن الكثير من الأخطاء والثغرات التي انتابت العملية السياسية والتي جاءت بالكثير من العناصر غير الكفوءة وخارج نطاق التكنوقرط ومن غير المؤهلين ومن المؤمل ان يكون استجواب السيد وزير التجارة فاتحة خير لتعافي الأداء الحكومي وانعتاقه من عقال الدوامة التي يتخبط فيها للوصول الى أداء أكثر نزاهة وكفاءة واقل تحاصصا وفسادا ..
مهما كانت الأسباب والدوافع وراء \"حمى\" الحراك الأخير للبرلمان في استجوابه بعض المسؤولين من ذوي المناصب الحساسة فان وراء ذلك أمورا عدة منها أن هذا الحراك قد يشكل خارطة طريق لنهاية ظاهرة تمترس بعض المسؤولين وراء الكتل والأحزاب التي ينتمون اليها سيما \"الكبيرة\" منها حيث اعتقد \"البعض\" أنهم في منأى عن المراقبة والمساءلة والعقاب مادامت كتلهم توفر \"الحماية\" لهم وتجعلهم فوق القانون ومادامت تهمة \"التسييس\" جاهزة لتلاحق كل من يرفع سيف النزاهة بوجه الفاسدين والمفسدين ..ويدل هذا الحراك ايضا على ولوج العملية السياسية مرحلة جديدة ومن باب تفاءلوا بالخير تجدوه بقرب انتهاء عصر \"الديناصورات\" الحزبية والتحاصصية التي حولت الكثير من مؤسسات الدولة العراقية الى إمبراطوريات ومزارع لهذا وذاك ولم يخطر في بال احد انها ستؤول يوما الى زوال بل لم يتصور احد ان يقف امام منصة البرلمان ليكشف امام الشعب عن طريق ممثليه اسباب القصور والاخفاق وضمن القانون ..
إعلامي وكاتب