لم تكن الوعود الانتخابية الذي اطلقها الرئيس الامريكي باراك اوباما إبان حملته الانتخابية والتي انتهت بفوزه \"المريح\" برئاسة الولايات المتحدة الامريكية وتربعه على سدة المكتب البيضاوي في البيت الابيض وبالرقم 44 ...لم تكن متأتية من فراغ او كانت مجرد خطة انتخابية ضمن برنامج سباقي محموم كان القصد منها استمالة الناخب الامريكي (دافع الضرائب) الذي لم يكن بدوره متحمسا بما فيه الكفاية لاستمرار النهج \"الجمهوري\" باساطينه الحالية وببرنامجه الذي لم تتغير مفرداته كثيرا وأطروحاته المتشابهة في قيادة دفة الادارة الامريكية واستمرار ذات البرامج لولاية \"جمهورية\" أخرى مع تغيير الوجوه في الطاقم الرئاسي والديكور السياسي بما يتناغم والمرحلة المعاشة ..وكما يبدو ان شعار التغيير الذي طرحه اوباما اثناء حملته الانتخابية انه كان يعبر بصدق وشفافية عن الرغبة الوطنية والقومية الأمريكية العارمة نحو تغيير جذري حقيقي وبنـّاء وشامل وليس مجرد شعار او برنامج انتخابي ، ان فلسفة التغيير لا تعني من وجهة النظر الاوبامية (الديمقراطية) التغيير كرغبة سايكلوجية فقط نحو نمط آخر من التوجه الامريكي داخليا وخارجيا ، سياسيا واقتصاديا بقدر ماتعني تلك الفلسفة ان المصلحة القومية الامريكية العليا هي التي تقتضي التغيير المنشود في ظل المتغيرات العالمية وتنوع مصادر الاستقطاب العالمي وصعود قوى عالمية عملاقة اخرى ...فتواشجت المصلحة القومية العليا مع الرغبة الكامنة في سايكلوجية الناخب الامريكي وتلاقحت مع مقتضيات الوضع العالمي الراهن وكان الامر بهذا المنحى احد الاسباب التي دعت بالناخب الامريكي ان يعطي صوته ولاول مرة لمرشح من أصول افريقية هجينة ومن جذر اسلامي خليط متجاوزا جميع الاطر الانتخابية التقليدية السابقة والمفاصل النخبوية الكلاسيكية المدعومة من قبل المؤسسات الاقتصادية والمالية العملاقة واللوبي اليهودي الفاعل في الساحة السياسية والاقتصادية والاعلامية الامريكية ..وهذا ما يدل كنتيجة ايجابية استقرت في خانة اوباما انه كان يستقرئ نفسية الناخب الامريكي ويتحسس نبضه ورغباته كما كان يستقرئ حزمة المتغيرات العالمية وما يتعلق منها بالأمن القومي والمصلحة الامركية ليرسم معالم برنامجه الانتخابي على ضوئهما (الداخل والخارج)...
تعد القضايا الاقتصادية الملحة التي هي عصب الهيمنة والتفوق الامريكيين والازمة العالمية التي القت بظلالها الوخيمة على الاقتصاد الامريكي ومعه العالمي ، وقضايا الشرق الاوسط وبالأخص العراق ، وطريقة تناولها ومعالجاتها تعد من المؤشرات الحقيقية لفاعلية اي برنامج انتخابي أمريكي راهن واستنتاجا على اهمية هذين المؤشرين وتاثيراتهما على مجمل السياسات الامريكية واستقراءً على الاحداث التي توالت على امركا والعالم ومنه الشرق الاوسط وطرق واساليب ومعالجة تلك الاحداث من قبل ادارة الرئيس السابق بوش فإن رغبة التغيير بناء ً على ذلك كانت تتعاظم وتتواتر شيئا فشيئا في اوساط الرأي العام الامريكي (والعالمي) ماجعل وتائر الترحيب باوباما وببرنامجه تتزايد يوما بعد يوم..
ومن وجهة نظر تحليلية تاريخية محايدة فان الاحداث النوعية التي وقعت اثناء ادارة بوش ربما تكون من اخطر احداث التاريخ المعاصر للولايات المتحدة واكثرها تداعيا ودراماتيكية (11 سبتمبر نموذجا ) وايضا فان القرارات التي اتخذت بشأنها تعد من اهم واخطر القرارات المصيرية ولعقود ..وقد راينا لاسباب معلنة وغير معلنة كيف ان الولايات المتحدة قادت المجتمع الدولي للاطاحة بنظام طالبان في افغانستان وفيما بعد بنظام صدام حسين في العراق بحربين امميتين نوعيتين غير مسبوقتين كانت لهما تاثيراتهما المباشرة ليس على الواقع الامريكي نفسه وانما امتدت ليشمل التواجد الامريكي الخارجي نفسه وبمزاج اقترب كثيرا من استذكار مناخ حرب فييتنام وكوارثها متعددة الوجوه ..
وكان من اهم سمات التغيير الاوبامي نحو العراق ما يتمثل في الرغبة الجامحة في إنهاء الحرب باهظة الثمن في هذا البلد وتدني القناعة الشعبية الامريكية بجدواها واستمرارها الى ما لانهاية سيما مع تزايد ارقام ضحاياها وعبور كلفتها حاجز تريليون الدولار وهو مبلغ خرافي اثر تاثيرا واضحا على عموم الاقتصاد الوطني الامريكي وساهم في تململ دافع الضرائب المساهم في تمويل حرب لم تعد تعني لديه الكثير ..
ومن الأسباب المباشرة لهذا التغيير التحسن السياسي والامني الملحوظ في الشأن العراقي وامتلاك العراقيين لزمام المبادرة لتحسين اوضاعهم وعلى الاصعدة كافة يأتي الامن في مقدمتها وايضا الانفتاح الدبلوماسي النسبي تجاه العراق وظهور بعض البوادر والمؤشرات التي تدل على عودة العافية التدريجية والاستقرار الجزئي الى هذا البلد الذي حطمته الديكتاتوريات وانهكته الحروب والصراعات والتنازعات الطائفية والمذهبية والعرقية والقومية والتخندقات الحزبية والاحتراب السياسي ..وهناك دلائل واضحة على ان الشعب العراقي بكل الوان طيفه بدأ يتجه نحو التحول الديمقراطي الحر والتعايش السلمي ونبذ مخلفات الماضي يضاف الى ذلك الرغبة الشعبية العراقية المتمثلة بإنهاء ملف الاحتلال وفتح صفحة عراقية جديدة مع الذات الوطنية ومع المحيط العربي والاقليمي والدولي وكل ما تقدم منجزات مهمة اوحت بالتاكيد لاوباما بان يضع الرغبة الامريكية والعراقية المزدوجة في إنهاء هذا الملف باقل الخسائر وببرنامج انسحاب حقيقي آمن ومسؤول ومن الطبيعي القول ان هذا القرار لم يكن متأتيا حتى تكتيكيا قبل سنوات قليلة او سنتين بالتحديد حتى لو كان اوباما رئيسا للولايات المتحدة وإلا لإنهار العراق ومعه الشرق الاوسط ولذهبت جميع الاهداف المتوخاة من \"تحرير\"
العراق أدراج رياح الإرهاب والأطماع الإقليمية وتخبط الكثير من القوى السياسية العراقية...
ومن العوامل المهمة التي ساعدت على تبني فلسفة التغيير ملابسات \"القضية\" الفلسطينية وتداعياتها السلبية المؤثرة على استقرار المنطقة عموما خاصة بعد الحرب التي شنتها اسرائيل على \"دويلة \" غزة وانهيار مبادرات الحلول الوسطية واستمرار التوتر المزمن جراء سياسات الولايات المتحدة المتشنجة والمنحازة الى اسرائيل وصعود اليمين الاسرائيلي المتطرف وبمباركة امريكية ملحوظة يضاف الى ذلك بروز رغبة أمريكية شعبية حقيقية في رؤية شرق أوسط مستقر وآمن من خلال إيجاد محرك جديد لتسوية فاعلة لهذه القضية ..
ومن الواضح ان الرئيس اوباما قد فهم جيدا اللعبة الانتخابية من خلال قراءته الناضجة لسايكلوجية الناخب الأمريكي الذي بدا عليه التململ من استمرار الحرب المفتوحة على العراق في حين كان يتطلب من العراقيين أنفسهم ان يبادروا الى حل مشاكلهم بأيديهم وترتيب بيتهم الداخلي وإعادة تنظيم حياتهم وقد تحقق من هذا القبيل الشيء الكثير ما شكل احد الأسباب التي دعت الى إعلان اوباما ستراتيجته الجديدة بالانسحاب المسؤول واعتبار أفغانستان المعقل الرئيس والمغذي للإرهاب وبالتالي ستكون \"المعركة\" الفاصلة على الإرهاب العالمي على التراب الأفغاني ...والأمر الذي سيختلف عما سبق ان الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون منفردة في الساحة الدولية او صاحبة القرار الأعلى المسيطر على القرار الاممي والرغبة الأممية في هذا المجال وفي غيره بل ستكون لاعبا رئيسا وشريكا حقيقيا لكل الجهود المنضوية للقضاء على الإرهاب وهنا يكمن احد أهم عوامل فلسفة التغيير الاوبامي في السياسة الخارجية الأمريكية...
ان التغيير الناضج والمتناغم مع المصالح الوطنية العليا والمنسجم مع الرغبات الشعبية المترجمة عبر صناديق الاقتراع هو من أهم سمات العالم الديمقراطي والليبرالي الحر ومن مرتكزات الحرية التي يتمتع بها المجتمع المدني المتحضر ويأتي البرنامج الانتخابي ليحول ذلك الى واقع ملموس...
إعلامي وكاتب [email protected]
أقرأ ايضاً
- فلسفة الموت عند الإمام الحسين (عليه السلام)
- دعوة للمراجعة والتغيير.. عن نظام القبول المركزي في الجامعات العراقية
- البيت الاولمبي العراقي بين التغيير والاصلاح