- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الموازنة بين الدين والدولة...أثقفة السياسي وأسيسة المثقف
منذ القديم وقع الناس بين إفراط وتفريط في أمر الدولة التي هي أعم من السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وحتى الرابعة الإعلامية، فبعضهم صيّر الدولة نقيضا للدين ونسي كل شيء دونها وكانت نتيجته أن صارت الدولة هدفا بذاته يطلبه بأي ثمن حتى قال قائلهم: إن الملك عقيم، لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.
وبعضهم صيّر الدين هدفه الأول والدولة نقيضه، فاعتزل الحياة وقاطع الساسة وحرم السياسة متصورا أن الدين والدولة كالأبيض والأسود نقيضان لا يجتمعان في وقت واحد ومكان واحد.
وعلى أساس إفراط الأول قامت ثلاث مبادئ تعد من أخطر مساوئ الدول:
الأول: الاستئثار بالسلطة.
الثاني: الغاية تبرر الوسيلة.
الثالث: فصل الدين عن الدولة.
وكان جراء هذه المبادئ أن ساد الظلم والاحتكار وانحلت الأخلاق والقيم وديست القوانين وأخذ مطبلون ومزمرون وهم موجودون في كل زمان ومكان ينفخون في بطل كارتوني مزيف.
وعلى أساس تفريط الثاني قامت ثلاث نتائج لا تقل خطورة عن الأولى:
الأولى: انعزال الدين عن الحياة مع أن الله سبحانه أراد للدين أن يحكم ولمبادئه أن تهدي في كل زمان ومكان. قال الله تعالى: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم( الأنفال 24) وقال عز وجل: ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون(المائدة44).
الثانية: انعزال الأكفاء والنزهاء وتخليهم عن إدارة شؤون الحياة، حيث أن الساسة الطغاة حولوها إلى ساحة للكذب والخداع والوقيعة، يحذر المخلصون من الولوج فيها.
الثالثة: انحصار العلوم والمعارف الدينية عند بعض أهلها دون أن تقترب من السياسة والاقتصاد والإدارة، فصار العالم بالدين واعظا ومربيا لا مرشدا ومسددا، وبالتالي انحصرت مهمة العالم الفقيه بالطهارة والنجاسة والصلاة والصيام وغيرها مما يقوّم الإنسان في عباداته وهي من أسمى الوظائف وأنبلها لكنها ليست كل الحياة.
وانحصرت مهمة السياسي بالحكم والدولة دون أن يقترب من الدين أو يلتزم بأخلاقه وقيمه، فكان جزاء هذه النتائج أن سادت الفوضى والرذيلة وانتشرت مبادئ الشيطان وتصدى غير الصالحين لتولي أمور الحكم والسلطة فحكموا الناس بالتبعية وشرّقوا وغرّبوا ولم يأووا إلى ركن وثيق.
وبسبب تلك الهوة التي أحدثها الطغاة بين الدين والدولة برزت هناك بعض الظواهر المنافية لقيم ديننا ومذهبنا ومجتمعنا وبدأت تنتشر في مجتمعاتنا بمساعدة أذناب الطغاة ومروجي الحضارة الغربية في وجهها الإباحي المرعب، وعلى جميع المسؤولين وعلماء الدين ومنظمات المجتمع المدني وعموم المواطنين الوقوف أمام إقامة حفلات الرقص والغناء في الأعراس وغيرها وبصورة علنية ، وكذلك ظاهرة الإفطار العلني وظاهرة عرض الملابس النسائية بصورة مثيرة ، وظاهرة السب والكفر بالله تعالى ، وظاهرة فتح أجهزة المذياع على الأغاني بصوت عال ٍ جدا، وهناك مسؤولية تقع على عاتق الجميع من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحفاظ على قدسية مدننا خصوصا المقدسة منها وكذلك بقية مدن العراق بما يتناسب مع التزام المجتمع بمبادئ الدين الإسلامي.
وللحيلولة دون تصدي الفاسدين لمقاليد الأمور فان الدستور العراقي كان واضحا فالمادة الأولى تنص على: ( انه لا يجوز سن قانون يتنافى مع ثوابت الشريعة الإسلامية ) والمادة العاشرة تقول أن: ( العتبات المقدسة كيانات حضارية تتبنى الدولة حمايتها والحفاظ على قدسيتها وهيبتها )، ونحن بالإضافة إلى ذلك بحاجة إلى سن تشريع قانون جديد يؤكد على عدم الإساءة لحرمة الأماكن المقدسة وغيرها لاسيما التي تقطنها أغلبية مسلمة، وهذه المطالبة ليست ضد الحريات الشخصية أو العامة، ولكننا نريد الممارسات التي لا تخدش الحياء العام، علما أن حرية الأشخاص تنتهي عند البدء بحرية عامة الناس، وإن الحرية تبلغ أوجها عندما تحترم معتقدات الآخرين وآدابهم وأخلاقهم الذين يفتخرون بها وهي التي تثبت آدميتهم وبدونها يضحى الإنسان مسخا لا فرق بينه وبين الأنعام.
ولولا تخلي بعض أهل الحق عن مسؤولياتهم لما شاهدنا الذي شاهدناه ولما أصابنا ما أصابنا من ويلات ودمار، أنا لا أدعو إلى إقحام علماء الدين في مؤسسات الدولة، بل أدعو إلى أثقفة السياسي بالنص الإسلامي أو استشارة علماء الدين في موارد التخصص، لئلا تنتهك القيم والمقدسات والحرمات ولئلا تصاب شريحة وإن كانت أقلية بالظلم والحيف والتهميش، إذ أن الفراغ محال في الوجود والناس لابد لهم من دولة وحاكم، فإذا لا تحكمها مبادئ الدين حكمتها مبادئ غير الدين، وإذا لا يتولاها الصالحون تولاها الطالحون، وليس في غير الدين عدل ولا عند الطالحين اعتدال، وهذه معادلة طبيعية حاكمة في مختلف المجالات وفي النبوي: لا يقبض العلم انتزاعا من الناس ولكنه يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فضلّوا وأضلّوا(تحف العقول، ص 32- 33).
وحتى نحافظ على الأموال العامة من السطو والإغارة من قبل شذاذ الآفاق من العبثيين والطائفيين الذين سامونا سوء العذاب على مدى عقود سحيقة من الزمن الغابر، وحتى نحافظ على ديننا وتراثنا ومقدساتنا وأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا ولكي لا يتحكم فينا الجهلة المائعين الذين انبهروا بالحضارة الغربية فأخذوا منها قشور التحلل والتفسخ والانحلال دون لباب التطور والتكنلوجيا والإبداع، هؤلاء الإمعات الذين يتربصون بنا دوائر السوء ليرجعونا إلى أحضان الديكتاتورية المقيتة التي بها يتنفسون الصعداء، وفي ظل التداول السلمي للسلطة يحتضرون لأنهم أصفار في صناديق الاقتراع ولا يمكنهم تبوأ السلطة إلا بالطرق الملتوية والانقلابات العسكرية ومؤامرات الأنظمة الديكتاتورية.
ولكي نكون في منأى عن هؤلاء الأوباش لابد ممن يجد في نفسه الكفاءة والنزاهة من الترشيح للانتخابات المحلية والمركزية، ولابد من الجماهير انتخاب الكفوء الصالح الذي يبني بنزاهة بيد ويدافع عن الكرامات والمقدسات في اليد الأخرى، لنأخذ من الغرب تقدمهم العلمي وتطورهم في الإعمار والنظافة والبناء، وندع وراء ظهورنا كل ما يخدش الحياء وينزف الفضيلة ويعكر صفو معتقداتنا التي بها نحيى وبدونها نضيع ونهلك.
أقرأ ايضاً
- جريمة عقوق الوالدين "قول كريم بسيف التجريم"
- صفقات القرون في زمن الانحطاط السياسي
- المثقف وعودة الخطاب الطائفي