رغم وجود سجال حاد على الأقل في عالمنا العربي بين مفهومي الصحافة الالكترونية والصحافة المطبوعة (الورقية) وأيهما أقوى من صاحبه على البقاء في عالم الإعلام إلا أن الأمور تتجه كما يبدو إلى حالة من التوافق والتكامل أو التناظر وليس إلى نوع من الإلغاء أو حتى التنافس كما يرى بعض المراقبين لحركة النشر الالكتروني فيما بين الصحافتين الالكترونية منها والمطبوعة, ذلك أن الدراسات العلمية المؤسسة على قواعد بيانات سليمة والتي تحدد أجلا قريبا محتوما للصحافة الورقية في حين تهب حياة أبدية للصحافة الالكترونية ماتزال درجات الصحة فيها حكرا على العالم الغربي المصنع لوسائل الإنتاج بشكل عام ومنها شبكات الانترنت.
أما العالم المتخلف عنها ومنه العالم العربي فليس له إلا الإذعان إلى منطق التوافق أو التناظر المذكور آنفا على المدى القصير والمتوسط وربما البعيد أيضا لا سيما مع تفشي أمراض الأمية بأنواعها ومنها الأمية الالكترونية التي لايزال يعاني منها قسم كبير حتى ممن هم على رأس الهرم العلمي في معاهد وجامعات العرب, وما يشاع من أن مكافحة أمية الكومبيوتر قد آتت أكلها على نحو واسع في بعض البلدان المجاورة...لا يصمد بوجه الحقائق الموضوعية مثل درجة التخلف في المستوى العلمي للجامعات العربية وانزوائها المزمن والمخجل في ذيل قوائم الجامعات العالمية المحترمة لا يستثنى من ذلك حتى من تدعي من جامعات العالم العربي بأنها تتسيد المشهد الفكري وتحتل عرش المكانة العلمية العربية مع ملاحظة ان من اهم ما يرفع من مستوى المعاهد والجامعات بحسب التقييمات العالمية هي درجة انتشار الحواسيب المرتبطة بشبكة الانترنت.
كما أن واقع الحال في العراق تحديدا يشهد باستشراء مرض الأمية الالكترونية او رهاب (الكومبيوتر) في الأوساط الأكاديمية على نحو لا لبس فيه بخاصة مع الأجيال القديمة من الأساتذة الذين ما برحوا يحتكرون منصة التدريس في هذا البلد فضلا عن قلة الاهتمام العام بتدريس مادة الحاسوب للطلبة الجامعيين ناهيك عن عدم الجدية بتدريس تلك المادة الحيوية لشرائح الطلبة دون المستوى الجامعي بصرف النظر عن مبالغات بعض المسؤولين التي تتحدث عن تنفيذ مشاريع واعدة في هذا السبيل.
وعلى صعيد الصحافة الالكترونية فاننا لم نشهد حتى الآن تحول صحيفة محلية مطبوعة الى صحيفة الكترونية بشكل كامل, واقصى ما لدينا حاليا هو وجود مواقع الكترونية لصحف ورقية محلية تستنسخ ما موجود في الصحيفة المطبوعة الام ولا تزيد عليها الا النزر اليسير, يضاف الى ذلك طبيعة المجتمع العراقي الميال بصورة عامة الى ايلاء الثقة الكاملة او شبه الكاملة للجريدة المطبوعة اكثر من أي وسيلة نشر أخرى, وما يزال العرف السائد هنا يساوي لا شعوريا بين بعض الأفكار والرؤى والأخبار المبثوثة على صفحات الجرائد وبين القرارات والتعليمات الصادرة من الجهات العليا والمنشورة في الصف الرسمية....
وبما ان المواقع الالكترونية من الكثرة بحيث لايستطيع الإحاطة بأغلب مضامينها والتصدي الى مشكلاتها إلا جهد دؤوب من لدن فريق من الخبراء المختصين بصناعة الصحافة الالكترونية من ناحيتي الشكل والمحتوى فإننا سنركز الحديث في نطاق محاولات الارتقاء بعمل المواقع الإلكترونية الخبرية أو ما تعنى اولا وقبل كل شيء بالخبر او الحدث والتعليق عليهما من خلال الأنواع الصحفية المعروفة كالمقال والتحقيق والمقابلات ونحوها سيما المواقع التي تشبه الى حد ما تصميم الجريدة الورقية التقليدية من حيث تعدد الصفحات او الأبواب... الى سياسية وأدبية واقتصادية ورياضية وفنية فضلا عن وجود غرف المحادثة..الخ الامر الذي يغني وجوده بطبيعة الحال عن وجود الصحيفة التقليدية بخاصة عند توفر خدمة الانترنت بصورة دائمة وباسعار مناسبة ووجود طاقم صحفي مختص وبادارة الكترونية تماثل اذا لم تتوفق على نظيرتها الورقية, اذ ان وجود شخص واحد او اكثر بقليل على ادارة موقع الكتروني لا يمكن ان يعمر طويلا في ظل اغراق السوق الالكترونية بمواقع الكترونية افضل, كما ان تواضع فريق العمل من حيث الكم والنوع لا يتناسب مع تحقيق غاية الموقع الخبري والتي تتمثل عادة بمسؤولية تبليغ الحقيقة مجردة او مخلوطة بتوصيل رسائل سياسية ذات توجه خاص وبشكل عام...
ان المتصور في هذا المقطع الزمني بالذات لاجل تحسين واقع الصحافة الالكترونية هو ان تعمد الاخيرة الى محاكاة اساليب العمل الصحفي التقليدي, فمما لاشك فيه ان الاذاعة والتلفزيون مدينتان الى هذا الجنس الصحفي الاول في ولادتهما ونشأتهما وبالتالي تطورهما نظرا لكون الرواد الذين عملوا اولا في الحقلين المذكورين كانوا من القادمين من مؤسسات صحفية تقليدية, وهذا الامر ينطبق بقدر ما على صحافة الانترنيت رغم وجود عدد لا يستهان به من العاملين في مهنة الصحافة الالكترونية ممن لا يتوفرون على خلفية صحفية سابقة, الا ان الاحتراف يظل الحقيقة التي لابد من الاعتراف بها والعمل بمقتضاها ان عاجلا او اجلا. وفي ما يلي بعض النقاط التي من شانها ان تجمل الخطوات الضرورية والتي لابد من الاخذ بها او ببعضها من اجل الارتقاء بالعمل الصحفي الالكتروني:
** ضرورة توفير البيئة القانونية للعامل في الصحافة الالكترونية وهذا يتمثل من خلال اليات قد يكون على راسها استحداث اتحاد او نقابة تتعاطى هموم وشجون العاملين في هذا الحقل الفتي من المعرفة الحديثة واذ ما تعذر تأسيس مثل هكذا اتحاد او نقابة لسبب او مجموعة اسباب فلا اقل من تشكيل قسم للصحافة الالكترونية في نقابة الصحفيين العراقيين يأخذ على عاتقه الدفاع عن الصحفي العامل بهذا المجال أسوة بقرينه العامل في الصحافة الورقية بالرغم من وجود تحفظات كثيرة على عمل نقابة الصحفيين في العراق وعدم اهتمامها الكافي حتى بالعاملين في الصحافة المطبوعة, وتبنيها لأشكال تعسفية من حيث فتح حقول الانتساب وقبول العضوية والتدرج فيها والحق في الترشح لنيل منصب اداري الا لمن كان قريبا من صاحب الدار او القرار, فضلا عن وقوعها قديما وحديثا في قبضة السلطات السياسية الماسكة في زمام الامور..
** ضرورة توخي المعايير المهنية العالمية من اجل صحافة الكترونية أكثر تأثيرا ومن تلك المعايير حداثة الخبر او تحديثه على مدار الساعة وسهولة تعاطي الزائر مع الصحيفة الالكترونية عبر شبكة الانترنت وحساب درجة التفاعلية بين الوسيلة والجمهور ومتابعة عدد الزوار من خلال المواقع التي تعنى بهذا الغرض مثل موقع elexa العالمي فضلا عن اجراء الاستبيانات والاستطلاعات التي تفيد في تقييم وتقويم موقع الصحيفة من حيث مستوى الاقبال ووجود الخدمات الضرورية المتعلقة بالبحث والأرشفة وتنوع النوافذ وما الى ذلك من المقاييس التي تحكم على مستوى الالكترونية من حيث التراجع أو الثبات أو التقدم على أشكال بيانية أو متواليات عددية أو هندسية....
** معالجة مشكلة قلة التمويل من خلال الترويج لثقافة الإعلان عبر المواقع الالكترونية فضلا عن البحث الدائم عن مصادر دعم مادي مثل ابتكار فرص استثمارات تجارية او كسب بعض المتبرعين المتعاطفين بالتوازي مع توجهات الصحيفة وطبيعة الجمهور المستهدف وسياقاتها الثقافية والاجتماعية.
** العناية الفائقة بجودة التصميم وتجديده بين الحين والآخر اذا تطلب الأمر, وقوة ورصانة المحتويات الفكرية والعلمية واستخدام المنهجية المتعارف عليها في دنيا الصحافة والاعتماد على القوالب الصحفية المعروفة كالخبر والتحقيق والتحليل ومقال الرأي والاستفادة القصوى من تقنية النص والصوت والصورة التي تفتقر إلى وجودها مجتمعة الصحافة التقليدية بنسختها الورقية في استحداث تغطيات جديدة تواكب الحدث لحظة بلحظة.
** ضرورة تفرغ العاملين في هذا السلك بصورة كاملة لانجاز أعمالهم من اجل صناعة صحافة متميزة تكسبهم الاحترام والتقدير من قبل جمهور المتلقين وتنأى بهم عن الاتهامات التي تضعهم في خانة الهواة او الطارئين أو المتطفلين على المهنة.
** الاستفادة الكاملة من فضاء الحرية الذي يمنحه الجو الالكتروني خصوصا في التعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية التي يعد ظهورها على ورق الجرائد العادية من قبيل المحرمات, ومزاوجة هذه الحرية بالمسؤولية التي من شانها إن تطبع الأطروحات الجريئة بخصائص الاتزان والموضوعية وقبول الرأي الأخر وتبتعد بها عن حالات التردي والهبوط الى قيعان الإسفاف والابتذال...
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net
أقرأ ايضاً
- صحافةٌ وصحافة
- التقارب السعودي الإيراني.. أمامه سجادة حمراء!
- بعيداً عن الزعيق الإنتخابي.. القوى السياسية غير جادة لإحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة !