الى زوجة بائع الشاي التي حضرت الى مكان الانفجار هي وأطفالها الاربعة حيث بسطية زوجها باكية تبحث عن اية قطعة من بدنه لتدفنها.
1
يبوح المكان (المخيم الحسيني) بدلالاته دائما. فهنا كانت الخيام الخالية حيث تم تغييب وشطب عيال رسول الله وترحيلهم من مكان الى مكان ثم صار الترحيل من المكان الى الذاكرة والوجدان.وعلى مبعدة خمسين مترا تم تغييب مجموعة كبيرة من اهل محلة المخيم بمقبرة جماعية في انتفاضة آذار1991،وبضمنهم طفل كانت قبضة يده تمسك عددا من دعبلاته التي كان يلعب بها.هنا علاقة مكانية ولكنها أسست لعلاقة زمانية قادمة. فالمقبرة الجماعية التي اكتشفت قبالة مدرستي الابتدائية والمخيم الحسيني تمت على اقرب احتمال يوم19/آذار/1991 حيث استباح الحرس الجمهوري مدينة كربلاء وفتك بأبنائها وفي 18/آذار/2008 وقع الانفجار الاخير.
2
ما يجمع بين هذه الحوادث ان معادلة التغييب هذه تتحرك على مدى التاريخ ،وفي منطقة المخيم في كربلاء وجدت عناصرها فاكتملت.فهناك الغيلة التي يمثلها شخص ضال من جيش عبيد الله بن زياد او من الحرس الجمهوري او من الارهابيين.وهناك الضحايا الذين يدورون مع مرحلتهم في صراع مضن للحفاظ على هويتهم الانسانية والتحرر من الظلم وممارسة الاختيار الطبيعي للمواقف والافكار بكفالة ووصية الهية تنفي الارغام والفرض بالقوة.فعيال الحسين مارسوا اختيارهم للصدق والوضوح ضد الزيف والغموض.وضحايا الانتفاضة مارسوا اختيارهم للخروج من ربقة الظلم والضغط على الوطن ثم المدينة ثم المحلة.وضحايا الانفجار الاخير مارسوا اختيارهم للعمل كموقف امام حياة صعبة وظروف مادية قاسية وهم في الاعم الاغلب عمال بناء وكسبة.
3
في بداية السبعينات كان محل أخي في راس شارع معاوية ويسميه البعض شارع ماوية وكنت اراقب المشهد صغيرا، كان شرطي المرور الكردي ميخائيل يقف يوميا ينظم المرور وفجأة وجد امامه سيارة المتصرف شبيب المالكي فمنعها من الدخول الى هذا الشارع معتذرا للمتصرف بأن واجبه اليوم يقضي بمنع اية سيارة من الدخول،فشكره المتصرف وانصرف معتذرا.لا علاقة لهذا بالانفجار الاخير؟؟؟.لكنه على الأقل يشير الى قانون مدني كان جزءا من اخلاق الاعلى والادنى من الناس.أما اليوم فعلى الرغم من الجهود الحريصة والكبيرة التي تبذلها الاجهزة الامنية إلاّ أن الاختراق يحدث ويكون ثمنه باهظا جدا ليدفع ثمنه الابرياء.
4
حضرت مجلس الفاتحة الموحد في اليوم الثاني في المخيم الحسيني وعزيت الموجودين وأنا اتساءل:
الا توجد خطط بديلة؟.
هل الخطط الامنية هي مسؤولية الأجهزة الأمنية فقط؟.
كيف نعيد زرع ذلك القانون الذي يتقبله الادنى والاعلى ونضمن به السلامة للجميع؟.
هناك حلقة مفقودة.
تمنيت من الله لو كانت يداي تتسعان لأحضن مدينتي الحبيبة ومحلتي الأثيرة على قلبي وأحميهما من السوء.ولكن هيهات.فهذه امان لا ترد بعوضة،فكيف بارهابي مفخخ؟.
5
-ماذا تريد؟.
-الجنة
-إذهب اليها فهي تحت اقدام الامهات ونحن في آذار وتستطيع فيه ان تبر امك وأباك وتضمن الجنة.
- لكن شيخي علمني ان رضاه يضمن لي الجنة.
- حسنا ارضِ شيخك (شيخ السوء) كما تريد.ولكن لا تجعل الآخرين يدفعون ثمن ما تفعل.
-الجهاد هو ان اقطع شأفتكم.
-وماذا فعل لك الابرياء لتقطع شأفتهم.
-لقد خرجوا عن الجادة.
-ولكنهم ابرياء ويكسبون قوتهم بأيديهم كما فعل الانبياء جميعا.
-ليس لك الحق بالتطاول على الانبياء والتلفيق عليهم.
- لقد قال سيدهم محمد (ص): (ما من نبي إلاّ ورعى الغنم وأنا كنت أرعى الغنم لقريش بقراريط).
- لقد خلق النبي من نور الله وأنت تجعله راعيا للغنم،أيها الفاسق.
-حسنا. اختلف معي كما تشاء.ولكن دع الناس يعيشون حياتهم فأنت لست راعيا لهم.وما عليك من حسابهم من شئ.بربك!!! من علمك هذه الكراهية؟؟.
6
الدخول الى المخيم
من كان يصدق انني لن اجد فرصة لنشر قصيدتي ( الدخول الى المخيم) والتي كتبتها في مطلع آذار 1985 إلاّ بعد الانفجار الاخير..وجع يكرر ذاته.وضحايا ومخاوف.ومشهد يكمله العنف وتغييب الضحايا دائما.يا لهذه المتوالية القاسية!.
منذ عشرين عام
والحمام
لا يطير على قبة الحجر الكربلائي إلاّ اذا
منح القلب خفق الجناح وهذا الهيام
منذ عشرين عام
والرصيف يسلمنا للرصيف
والرغيف يبعثرنا في الرغيف
والمكان قريب الينا
والزمان غريب علينا
ما خرجنا لندخل
كانت تحاصرنا الواقعة
والمخيم يدخلنا حين ندخله
ويذكرنا حين نضحك بالفاجعة
أدخل الآن….
أخلع نعلي وكل سماسرة الحرب
أخلع حتى الكلام
السلام على الخيمة الباقية
السلام على القلعة الخالية
السلام على جسد صار في دمنا
ما ارتضى باندثار التراب وتيه الغبار
السلام
السلام
فالحمام
لا يطير على قبة الحجر الكربلائي إلاّ اذا
جرح القلب بالانتظار
2/آذار/1985
7
كربلاء…. الملاذ الاخير للهاربين من النار والقتل..وللراجين السلام والطمأنينة..حمامها شردته الحروب ولكنه عاد الآن آمنا.حملت وجوه ابنائها الذين طوردوا وشردوا واضطهدوا.لم يرتو عطشنا إلاّ من ماء سبيلها.قبالة المخيم حيث محل اخي انتزعني رجال الامن عام1973 في سنتي الحادية عشرة لأن صورة احمد حسن البكر سقطت امام المحل ولم أعبأ بها.كانت ذاكرتي تصور وتعزف جمال المدينة وبساطتها.فمن يكون البكر ازاء ذلك.هناك ساحو مدورة تشمخ فيها شجرة جوز هند عالية.والرخام يتلألأ في الظهيرة.وهناك المخيم الحسيني بدلالاته قبال محل اخي وبجواره مدرستي الابتدائية.هناك اصدقاء طفولتي الذين سفروهم الى ايران ولم ار منهم احدا.هناك نطقت الاشياء بهوياتها والوانها.كان المخيم مضمار لعبنا ووعينا وموعظتنا.منحنا الحضور القوي وخيرنا بين الرحيل والبقاء فاخترنا الاخير.مثل عمال البناء الذين كان يقفون منذ طفولتنا عصر كل يوم ليتداولوا امورهم بعد يوم عمل متعب.هنا بقينا حيث نستطيع ان نمسك سرة الارض والبصيرة وحيث ركضت اقدامنا الصغيرة ولمست التراب واحببنا وطنا عراقيا كبيرا متنوع الامزجة والثقافات.ومن ها هنا بدأت المعزوفة الوطنية الاولى ،عراقية خالصة ووجدنا أنفسنا كربلائيين نتلمس افراح واحزان واحلام شعوب الارض.كل شئ يدعونا الى الانفتاح والمحبة،حتى أزقة كربلاء الضيقة كانت تتسع لجنسيات مختلفة.من يعلم أدمغة الكراهية والقتل اننا هنا.ربانيون محمديون حسينيون نفتح بيوتنا للقادمين لنكمل معزوفة انسانية عراقية. كل شئ يهون إلاّ أن نغادر كربلاء وظهيرتها الساطعة.
8
في الطريق الى البيت بعد الانفجار اتصل اصدقائي من ادباء وصحفيين وهم يسألون عن الانفجار وكربلاء…كنت عائدا الى البيت ولمحت تانكر الماء في دخوله الى منطقة الانفجار بعد اغلاقها وبكيت كثيرا..يا الهي سيغسلون مكان الانفجار من دماء الضحايا،ولكن من سيغسل ذاكرتي؟. من يغسل ذاكرة الكربلائيين الطيبين من الوجع المتكرر؟. من؟. اللهم بحق شربة ماء قدموها لزوار حبيبك الحسين،خفف عنهم.آمين.
9
كان الانفجار قبل المولد النبوي،ونحن نتهيأ للاحتفال بميلاد سيد الانبياء ونبي الرحمة والمحبة.نطقت هويتنا.محمديون قبل الرضاع.نحبه ونحب خلقه وشعبيته وبساطته وتلقائيته وقوة جوهره الانساني المفطور على فطرة الله التي فطر الناس عليها.سيتقبل الله منا هذا القليل من القربان ونحن نريد ان نتقن المحبة كما اتقنها ابو الزهراء ووزعها قبل الخبز على الناس..صلى الله عليك يا نبي الرحمة والمحبة.ما أبعد هؤلاء القتلة عن خلقك.
أقرأ ايضاً
- هل جامعاتنا ورش لبناء المستقبل أم ساحات تعج بالمشاكل؟ - الجزء الثاني والاخير
- "خُوارٌ جديدٌ".. برامجُ إلْحاديّة بطرقٍ فنيّة !! - الجزء الثالث والاخير
- منبر أم أعواد ؟ - الجزء الثالث والاخير