- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التحزب والتأدلج السياسي سجن المثقف
تريد هذه المقالة القصيرة تناول موضوعة «المثقف» و«المثقف السياسي»، والتأثيرات السلبية والإيجابية للسياسية على الفعل الثقافي للمثقف. وعندما نتكلم هنا عن المثقف والثقافة، فهذا لا يشمل ما يطلق مجازا على بعض الظواهر السلبية أنها تمثل ثمة ثقافة، كاستخدام مصطلح «ثقافة كراهة الآخر»، فهذا ليس إلا من قبيل الاستعمالات المجازية، وليس له علاقة بالثقافة التي نعنيها هنا.
المثقف الحق ليس من يخزن كمّا من الثقافة المقروءة، بل هو من يعيش توقدا في الذهن يجعله في حالة حوار مع ما يتلقاه من ثقافة مقروءة، وفي حالة تأمل، يمتزج فيه المكتشِف عبر التأمل والقراءة الواعية لتجربة الحياة، مع القارئ الجيد، فهو لا يقرأ في الكتاب المقروء وحده، بل يقرأ إلى جانب ذلك في كتاب تأملات العقل، كما وفي كتاب سياحة الحياة، وبالتالي فالمثقف الحقيقي هو مفكر ولو بمقدار، أو هو سائر شوطا بعد شوط في طريق الصيرورة المفكرية. وكون المفكرية مقترنة بالضرورة بالإبداع، فيكون المثقف الذي هو دون المفكر، مبدعا ولو بمقدار، أو ممن يتململ في داخله ثمة قلق إبداعي.
هذا في جانب الفعل الذهني للمثقف، ولكنه لا يكون مثقفا ما لم يقترن التوقد الذهني عنده بالحس الإنساني. وحيث أن الحس الإنساني من شأنه أن يجعل الإنسان يعيش الإحساس العميق بأحزان الناس وهمومهم، وبأحلامهم وتطلعاتهم، والذي، أي هذا الإحساس العميق لا بد من أن يتحول إلى طاقة محركة، تحركه نحو ترجمة الهم إلى فعل، وبالتالي يكون من الطبيعي أن يكون المثقف بأي درجة كانت سياسيا، يبدأ بهمّ اجتماعي ثم اهتمام ومتابعة ثم تفكير ثم فعل اجتماعي وسياسي يواكب فعله الثقافي ويعضده.
ولكون الأحزاب السياسية تمثل غالبا الحواضن الطبيعية للفعل السياسي، قد يلجأ المثقف السياسي، إذا غلبت السياسة عنده إلى الانضمام إلى حزب من الأحزاب السياسية، ولكن المثقف أو الفنان أو المبدع في داخله، ودفء الحس الإنساني، كل ذلك يجعله حزبيا غير متحزب كل التحزب، بل يبقى المتمرد الملازم للمثقف والفنان والمفكر والإنساني يتململ في داخله.
ولكن المشكلة عندما تغلب شخصية الحزبي في داخل المثقف السياسي، وخاصة عندما تكون الحزبية مؤدلجة، تفتر تدريجيا شخصية المثقف المتمرد، وتغلب شخصية السياسي الذي يحسب حسابات الربح السياسي والخسارة السياسية، أو مراعاة ما يمكن أن ينعكس على حزبه عبر طروحاته، أو تغلب عليه شخصية الإيديولوجي، فتموت تدريجيا إذا لم ينتبه إلى نفسه روح الإبداع، فيسترسل سياسينا المحترف أو مثقفنا المتقاعد في حالته هذه، ويستصحبها غير ملتفت للمفارقة التي حصلت لديه، وربما تمضي عليه عقود من الزمن، حتى يموت فيه المثقف، وينشط السياسي، لكن ليس السياسي بمعناه الإيجابي الذي مثل دوافع توجهه للهم السياسي، من خلال تفاعل الحس الإنساني في داخله. وهذا الخطر الذي يهدد بقتل المثقف داخل السياسي-المثقف، والذي كان بالأمس المثقف-السياسي، يكون أكبر عندما يتحول السياسي فيه من تطلعات الثورة إلى تطلعات السلطة، فعندما يتحول مشروعه إلى مشروع سلطة، ويا ليته توقف عن مشروع الدولة، فليحضر نعش تشييع المثقف فيه.
ولكن هناك من مثل هؤلاء من يبقى المثقف حيا وقلقا ومتململا في داخله، يتجسد بين الحين والحين بنزعة التمرد، والسباحة عكس التيار، أو التحليق خارج السرب الذي ينتمي إليه، والتغريد الانفرادي بين الحين والحين، فيكون صوتا متميزا عن سائر الأصوات.
ومن هنا نجد ظاهرة ربما تتكرر، وهو عندما يستيقظ المثقف الإنسان المبدع يوما في داخله، فينتفض ويترك حزبه الإيديولوجي، عندما ينتبه إلى أن التأدلج يقتل طاقته الإبداعية ويطفئ توقد دفئه الإنساني، تراه فجأة يتمرد وينطلق في فضاءات الإبداع، ويعود إلى وعيه وعطائه الثقافي، وكأنه كان قد فقد ذاكرته الإبداعية لكل تلك الفترة، وفجأة عادت إليه تلك الذاكرة، أو كان كالمصاب بالكساح الإبداعي الذي تعافى فجأة منه.
هذا لا ينبغي طبعا أن يفهم كحث للمثقفين بترك العمل الحزبي وترك السياسة، فتخلو الساحة منهم، ليملأها السياسيون النفعيون، وركاب الموجة المتحولون أحيانا من موجة إلى أخرى، الذين يضعون بالدرجة الأولى في حساباتهم منافعهم الشخصية أو الحزبية أو الإيديولوجية. فالسياسة في بعدها الإنساني الذي يمثل المحرك الأساسي نحوها في حاجة إلى السياسي المثقف، دون تسييس الثقافة، وفي حاجة إلى السياسي الإنسان، دون الاستغراق في المثالية، وفي حاجة إلى السياسي المتمرد، دون تجاوز ضوابط الحكمة.
ضياء الشكرجي
أقرأ ايضاً
- صفقات القرون في زمن الانحطاط السياسي
- المثقف وعودة الخطاب الطائفي
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود