في كل دورة سياسية عراقية، تتكرر الطقوس ذاتها: مواصفات جاهزة، أسماء متداولة، تسريبات محسوبة، وضغوط يلمّح إليها الجميع دون أن يُعلنها أحد. لكن هذه المرة يبدو المشهد أكثر التباسًا من أي وقت مضى، حتى بات منصب رئيس الوزراء أقرب إلى «حزورة» تدور حولها القوى السياسية بلا يقين، وبلا قدرة على كشف الورقة الأخيرة.
ورغم ما يُعلن عن أغلبيات واضحة داخل البرلمان، وما يُقال عن توافقات أولية، إلا أن لحظة الحسم تبقى معلّقة. فهناك مقاعد كثيرة على الورق، لكن الانسجام قليل في الواقع. القوى التي يفترض أنها تمتلك اليد العليا، تعيش حالة تنافس داخلي لا تخطئها العين، ما يجعل كل مرشح محتمل عرضةً للقبول في الصباح والاعتراض في المساء.
المفارقة أن جميع الأطراف تتحدث بلغة واحدة: نريد شخصية هادئة، عقلانية، غير صدامية، مقبولة داخليًا وخارجيًا، وتملك خبرة في الإدارة. مواصفات تبدو مثالية، لكنها أصبحت أشبه بورقة اختبار تُستخدم لاستبعاد الأسماء أكثر مما تُستخدم لاختيار أحدها. فالمعايير هنا مطاطة، تتغيّر حسب اللحظة، وحسب من يقرأها، وحسب الكتلة التي تشعر بأن المرشح المقترح قد يسحب البساط من تحت نفوذها.
وفي ظل هذه الحالة، تحوّل منصب رئيس الوزراء إلى مساحة رمادية. لا شيء محسوم، وكل شيء قابل لإعادة التفاوض. تُختبر ردود الفعل الإقليمية والدولية قبل أن تُختبر مواقف الداخل. ويتحوّل أي تلميح إلى ضوء أخضر محتمل، وأي تصريح رسمي إلى محاولة لجسّ النبض. أما الجمهور، فيتابع المشهد بتململ واضح: بلد ينتظر رئيس حكومة، وقوى سياسية تبحث في دفاترها عن اسم لا يغضب أحدًا ولا يرفضه أحد.
هذه اللعبة المعقدة تكشف خللاً أعمق من مجرد خلاف على اسم. إنها تعكس غياب مشروع واضح، وعدم وجود اتفاق حقيقي على شكل الدولة ومسارها في السنوات المقبلة. فالصراع لم يعد حول من يدير الحكومة، بل حول من يستطيع أن يضمن النفوذ الأكبر داخلها. هنا بالتحديد تظهر “الحزورة”: مطلوب رئيس وزراء قوي بما يكفي لإدارة دولة، وضعيف بما يكفي لعدم إزعاج مراكز القوى. مقبول للجمهور لكنه لا يتحرك إلا ضمن حدود التفاهمات القديمة. يرفع شعار الإصلاح، لكنه يلتزم بخطوط مرسومة مسبقًا.
ومع استمرار الغموض، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ننتظر توافقًا حقيقيًا يُنتج رئيس وزراء قادرًا على إدارة مرحلة مضطربة؟ أم أننا أمام جولة جديدة من تدوير الأسماء إلى أن يبرز اسم يستطيع عبور حقل الألغام السياسي دون أن يعيد رسم قواعد اللعبة؟
حتى ذلك الحين، سيبقى منصب رئيس الوزراء في العراق حزورة معلّقة.
مواصفات حاضرة.. اسم غائب.. ومشهد لا يكشف أسراره إلا في اللحظة الأخيرة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!