يمثل الفقر في العراق واحدةً من أكثر الإشكاليات تعقيداً في المشهدين الاقتصادي والاجتماعي، ولا يعود ذلك إلى حجم معدلات الفقر فحسب، بل إلى الطبيعة المركّبة لهذه الظاهرة، وإلى التناقض الصارخ بين الإمكانات الاقتصادية للبلاد ومستوى معيشة قطاعات واسعة من السكان.
فالعراق، بوصفه واحداً من أكبر الدول المنتجة للنفط، يمتلك مورداً مالياً ضخماً كان يمكن أن يتحول إلى قاعدة لتنمية بشرية مستدامة، إلا أنه، بحسب المؤشرات الرسمية والدولية، لا يزال يعاني ضعفاً واضحاً في مستوى الخدمات الأساسية، وتراجعاً في بنية التعليم والصحة، وتفاوتاً اجتماعياً واسع النطاق.
وما أن تطلع على تقرير “الفقر متعدد الأبعاد في العراق”، الصادر عن هيأة الإحصاء بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وفريق أوكسفورد للفقر والتنمية في عام 2025، حتى يغمرك إحساس بالخيبة وفقدان الأمل.
يكشف التقرير إلى “أن نسبة 36.8 % من العراقيين، أي قرابة 17 مليون نسمة، يعانون من فقر يُقاس بخمسة مؤشرات: التعليم، والصحة، ومستوى المعيشة، والعمل، والتعرض للصدمات”. ويضيف “إن 17.5 % يعانون من فقر الدخل، أي أن متوسط دخلهم الشهري يقل عن 137 ألف دينار».
ويبين التقرير أن أكثر المحافظات فقراً، هي: المثنى بنسبة 43.6 %، ثم صلاح الدين بنسبة 18.7 %، فميسان بنسبة 16.3 %. في حين كانت أقل المحافظات فقراً، هي: كركوك بنسبة 9.5 %، ثم بغداد بنسبة 13.5 %. بينما حلَّت محافظات إقليم كردستان في مؤخرة القائمة، حيث سجلت دهوك نسبة 14.8 %، والسليمانية نسبة 7.9 %، وأربيل بنسبة 5.9 %.
هذا الواقع المزري لا يثير الغضب فحسب، بل يمثل مفارقة مأساوية؛ ففي العراق، الفقر ليس رقماً في تقارير دولية، بل هو حكاية وطن يفيض بالعقول والثروات، بينما يُستنزف بالفساد واليأس. إنه بلد يطفو على بحر من النفط، ويغوص في بحر من العوز. من بغداد إلى البصرة، ومن الموصل إلى العمارة، تتجاور القصور مع الأكواخ، وكأن الغنى والفقر توأمان قُدّر لهما أن يعيشا في جسد واحد اسمه العراق.
تعود جذور الأزمة إلى عقود من الأنظمة السلطوية المتعاقبة، والحروب المدمرة، والعقوبات القاسية، ثم طوفان الفساد الذي أعقب عام 2003. كل هذا حوّل الدولة إلى آلة تستهلك ثرواتها لتثبيت السلطة، لا لبناء الإنسان. فصارت الثروة وسيلة للولاء وليس للإنتاج، وتحول الاقتصاد إلى ريع سياسي بدلاً من أن يكون اقتصاداً تنموياً. فالسلطة التي تُبقي شعبها محتاجاً، تُبقيه مطيعاً.
وهكذا لم يعد الفقر مجرد نتيجة تراكمية لإخفاقات الماضي، بل تحول إلى أداة حكم. كل نظام استبدادي يعرف أن الجائع لا يسأل عن الحرية، والمحتاج نادراً ما يحتج. وهكذا صار الفقر جزءاً من هندسة السلطة؛ تُوزع الرواتب والمكرمات ليس بالعدل، بل بالولاء، فيعيش المواطن على فتات الدولة بدلاً من أن يعتمد على كرامة العمل.
ولعل الاختفاء التدريجي للطبقة الوسطى هو أحد أبرز المؤشرات على هذا الانهيار. هذه الطبقة، التي تشكل ميزان العقل في المجتمع وتحميه من التطرف والفوضى، ذابت تحت وطأة الحروب والانقسامات. لقد حلّ محل المعلم والمهندس والمثقف، تجار الأزمات والمضاربون والمنتفعون. وحين يختفي صوت العقل، يعمّ ضجيج المال والسلاح، ويضيع الوطن بينهما.
لكن الفقر في العراق لا يُقاس بفراغ الجيوب فقط، بل بفراغ العقول أيضاً. حين يضعف التعليم وتُهمل الثقافة، ينكمش الخيال وتزدهر الخرافة، تحول الطائفة إلى بديل عن الوطن. وهكذا يصبح الفقر الفكري أصل كل فقر مادي، ويُختزل الإنسان في حاجاته لا في أحلامه.
تلك هي المفارقة العراقية: بلدٌ يصدر النفط ويستورد الكهرباء، ويملك العقول لكنه يطاردها إلى المنافي. بلد يكتب الشعر ولا يقرأه أحد، يتغنى بمجده الماضي وينسى أن المجد لا يُورَّث، بل يُصنع. إنه غني بكل شيء إلا العدالة، وفقير بكل شيء إلا الألم. وهذه المفارقة ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة طبيعية لغياب مشروع وطني حقيقي منذ عقود.
فالثروة ليست منحة، بل هي امتحان. وفي العراق، كشف المال النفطي عن هشاشة البنية الأخلاقية لكل من الدولة والمجتمع. حين غابت العدالة، تحولت الثروة إلى لعنة تُغري وتُفسد وتُقسّم. إن الثروة التي لا تصنع كرامةً تصنع عبودية، والغنى الذي لا يولد معرفةً يولد خواءً أقسى من الفقر نفسه.
لن ينهض العراق بمشاريع إسمنتية ضخمة، بل بوعي جديد. حين يدرك العراقي أن خلاصه في عقله لا في معونته، وحين يعيد المجتمع الاعتبار للعلم والتعليم والعمل، عندها فقط ستتحول الثروة إلى طاقة للحرية، لا أداة للتبعية. فكل إصلاح لا يبدأ من الوعي، هو بناء على رمال.
وبرغم كل هذا الخراب، لم يمت الضوء تماماً. ثمة شباب يكتبون ويبتكرون ويزرعون وينهضون من بين الرماد. ثمة نساء يدرّسن في القرى النائية، وشباب يبرمجون في الظل، وعقول تعيد اختراع الأمل كل صباح. هؤلاء هم الثروة الحقيقية التي لا تُصدّر ولا تُنهب ولا تنضب. وحين يجد هؤلاء وطناً يحتضنهم، سيُعيدون للعراق مكانته التي يستحقها: منارة للفكر، لا مجرد سوق للنفط.
على مستوى الدول العربية، وحسب تقارير عالمية، صُنّف العراق في المرتبة التاسعة كأفقر دولة، بعد اليمن والصومال والسودان ومورتانيا وغيرها. أما على المستوى العالمي، فيحتل العراق المرتبة 76 كأفقر دولة في العالم.
وبالرغم من النفط والموارد الكبيرة في العراق، هناك تحديات كبيرة مثل الفساد وعدم الاستقرار والنزاعات، التي تؤثر على التوزيع العادل للثروة، وهو ما ينعكس في نسب الفقر وبعض أنواع الحرمان.
خلاصة القول..
ليس الفقر في العراق فقر مال، بل هو فقر عدالة ووعي ورؤية. وليس الغنى الحقيقي هو ما يُستخرج من باطن الأرض، بل ما يُستخرج من عقل الإنسان وإرادته. حين يتصالح العراق مع عقله، ويؤمن بالعلم بدل الولاء الأعمى، وبالعمل بدل الانتظار، عندها فقط سينهض من رماده كما فعل في تاريخه مراراً. فالأمم لا تموت، بل تُبعث من جديد حين تتذكر من تكون.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!