بعد أن وضعت الانتخابات العراقية أوزارها، تبدو الحاجة ملحّة لقراءة ما رافقها من إرهاصات ومؤشرات قد تُعيد تشكيل المشهد السياسي لسنوات مقبلة. فقد كشفت هذه الدورة حجم الفجوة بين القوى التقليدية والجيل الجديد من الناخبين، وعجز أغلب المرشحين عن فهم قواعد اللعبة الانتخابية في ظل القانون الحالي.
الخطاب القديم لا يزال يُتلى
ما يزال جزء واسع من القيادات السياسية المخضرمة متمسكًا بخطاب التخويف والترهيب ذاته الذي ظهر منذ أول انتخابات بعد 2003. وقد هبطت هذه القيادات إلى جمهورها بنفس “النبرة” التي اعتادتها في ست دورات انتخابية، مُلوّحة ببعبع الفوضى في حال الابتعاد عنها.
لكنّ هذا الخطاب فقد تأثيره القديم، بل ارتدّ على أصحابه وسط موجة من التنمّر والسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي. ولولا “الجمع الشبكي” لأصوات الناخبين، لكانت النتائج أكثر قسوة على الكتل التي تصف نفسها بـ“الكبرى”.
مليونا ناخب جديد.. فرصة أُهدرت
غاب عن هذه القوى أن قرابة مليوني شاب دخلوا العملية الانتخابية لأول مرة، جميعهم وُلدوا في عراق ما بعد 2003. هذا الرقم كان كافيًا لترجيح كفة أي مشروع سياسي ذكي، لو أُحسن التعامل معه مبكرًا.
لكن الأغلبية الساحقة من المرشحين بقيت أسيرة خطاب العشيرة والقبيلة، معتمدة على ولاءات تراها ثابتة، قبل أن تصدمها النتائج وتكشف هشاشة تلك الثقة.
وجوه جديدة.. وأدوات قديمة
رغم دخول مجموعة من الوجوه الجديدة إلى السباق الانتخابي، إلا أن كثيراً منهم بنى حملته على “نظرية استدعاء الزعيم”: إمّا بمدح شخصية قوية أو مهاجمتها، بغرض استقطاب جمهور يعتقد أن الاقتراب من السلطة أو خصومتها يصنع زعامة.
هذا الأسلوب يساهم فعلاً في ظهورهم إعلاميًا، لكنه لا يؤسس لنائب ذي مشروع، بل يخلق طبقة سياسية تعتمد على الصوت العالي والمال الناعم لا أكثر.
سوء فهم لقانون الانتخابات
أحد الدروس القاسية في هذه الدورة كان خروج عدد من النواب السابقين لأنهم خاضوا السباق بشكل منفرد. ومع وجود نظام انتخابي لا يرحم الترشح الفردي، تحوّلت مغامرتهم إلى خسارة مؤكدة، ما يكشف غياب الفهم التقني لقانون يفترض أنهم يعرفونه جيدًا.
الحركة المدنية خارج اللعبة
غياب القوى المدنية عن المشهد الانتخابي يعكس فجوة واسعة بينها وبين الجمهور، لكنه يكشف أيضًا خللاً بنيويًا في طريقة عملها. فإصلاح موقعها يحتاج إلى مسارين:
1. تفعيل قانون الأحزاب وتعديل قانون الانتخابات بما يحقق عدالة تمثيلية، خصوصًا في حجم الدوائر وتمويل الحملات.
2. بناء إستراتيجية مستندة إلى دراسات اجتماعية وأنثروبولوجية تضع خريطة طريق واضحة للدورات المقبلة.
الأقليات: وعي انتخابي يتقدم
على الضفة الأخرى، أظهر جمهور الأقليات إدراكًا متزايدًا لكيفية حماية تمثيله، ما يجعل مستقبل إلغاء الكوتا ممكنًا في الدورة المقبلة أو التي تليها، شرط نجاح تجارب التحالفات القائمة، وعلى رأسها تحالف القضية الإيزيدية.
صورة واحدة تُعيد تعريف الحملة
في المقابل، سجّلت حملة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني نقطة لافتة عندما انتشرت صورته وهو يدفع والدته على كرسي متحرك إلى مركز الاقتراع.
الصورة استثمرت رمزية “الأم” في مجتمع يُعلي من شأنها أخلاقيًا ودينيًا، وقدّمت خطابًا بصريًا عاطفيًا تفوق تأثيره على أي خطاب انتخابي تقليدي، بجانب بساطة مظهر والدته التي بدت كأي أم عراقية عادية.
شهرة مواقع التواصل.. خارج الصندوق
في المقابل، تلقّى نجوم مواقع التواصل الاجتماعي والفن رسالة واضحة:
المشاهدات والإعجابات لا تتحول بالضرورة إلى أصوات في صندوق الاقتراع.
وهو درس سياسي واجتماعي في آن واحد، يكشف أن “الشهرة” لم تعد طريقًا مضمونًا إلى البرلمان.
خطاب الكراهية.. الوجه الآخر للخسارة
كما أظهرت ردود الفعل العصبية لبعض الخاسرين حجم الهوة بينهم وبين جمهورهم؛ إذ تحولت بعض ردودهم إلى خطاب كراهية وتجاوزات لفظية، في مؤشر على غياب النضج السياسي وانعدام الثقة المتبادلة بين المرشح وبيئته الانتخابية.
مؤشران خطيران لمستقبل الديمقراطية
تُظهر مجمل مشاهدات هذه الدورة وجود مشكلتين جوهريتين تهددان مستقبل الديمقراطية في البلاد:
1. الغياب الكامل للبرامج الانتخابية الحقيقية.
2. سوء الفهم العميق لطبيعة دور البرلماني ومهامه في نظام الحكم البرلماني.
وتلك مسؤولية تتحملها الدولة ومؤسساتها كافة، لأنها لا ترتبط بنتائج دورة انتخابية فقط، بل بمستقبل العملية الديمقراطية برمّتها.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!