أشرقت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2025، لكن ضوء التصدر لا يصلح وحده لقيادة حقيقية أو حكومة فاعلة. ائتلاف الإعمار والتنمية بقيادة محمد شياع السوداني حقق تفوقًا انتخابيًا، لكن هذا التفوق ليس تذكرة لحكم دون شراكة، بل بداية سباق ما بعد الانتخابات نحو تشكيل الكتلة النيابية الكبرى، التي ستكون المفتاح لتشكيل الحكومة القادمة. ما يقلق كثيرين الآن هو ما إذا كان هذا الانتصار الانتخابي سيترجَم إلى برنامج إصلاحي حقيقي أم يظل مجرد منصّة انتخابية، يُعاد فيها توزيع النفوذ كما في كل مرة.
خطاب السوداني، الذي يُروّج نفسه كمهندس للبنية التحتية وباني للدولة، يبدو طاغيًا على خلفية شعارات “الإعمار والتنمية”. لطالما قدم نفسه كرجل عقده مع العراقيين هو بناء وطن والابتعاد عن الانقسامات الطائفية. لكنه يعلم أن التصدر وحده لا يكفي؛ فلكي يُقال إن ظهوره الانتخابي يحمل تغييرًا حقيقيًا، عليه أن يكوّن تحالفًا قادرًا على تجاوز الانقسامات الشيعية، التوترات السنية، والمطالب الكردية، دون أن يقدم تنازلات تؤذي مشروعه الإصلاحي.
ميدان المعركة الأهم الآن هو داخل الإطار التنسيقي. بعض قوى هذا الإطار، التي دعمت السوداني في الماضي، قد تنسحب إلى موقف منافس إذا وجدت أن مصالحها لا تتحقّق تحت قيادته وحده. هذا الاحتمال ليس بسيطًا، لأن قدرة السوداني على إدارة الصراعات داخل الشيعة ستكون اختبارًا لقيادته وقدرته على الدمج، وليس مجرد الحصول على أصوات.
علاوة على ذلك، يتعين على السوداني أن يحقق توازنًا مع الكتل السنية والكردية. التحدي الأكبر يكمن في أن يكون تحالفه أكثر من مجرد محاصصة وزارية، بل شراكة تعتمد على التزام حقيقي بالحكم وتقديم الخدمات للمواطن. الكثير من العراقيين تعبوا من التفاوضات التي تدور حول المناصب، بينما تبقى الخدمات هي المعادلة الحاسمة.
هذا المسار التصاعدي لا يخلو من مخاطر دستورية. القضاء دعا بالفعل إلى تسريع إجراءات التشكيل، وهناك حسابات زمنية واضحة لما بعد الانتخابات: جلسة البرلمان، انتخاب رئيس مجلس النواب، ثم رئيس الجمهورية، ثم تكليف الكتلة الكبرى لتسمية رئيس الوزراء. إذا تأخرت هذه الخطوات أو فشلت التفاهمات، فإن البلاد قد تدخل في فراغ سياسي ينذر بعواقب خطيرة على الصعيد الداخلي والدولي.
كما أن العراق اليوم ليس بمنأى عن الضغوط الإقليمية والدولية. المشاريع السياسية التي تُبنى داخل البرلمان لن تكون منفصلة عن تأثيرات طهران وواشنطن، وعن جماعات مسلحة تسعى لحجز مكانها في السلطة. أي حكومة جديدة ستُشكل، حتى لو بدت إصلاحية، ستواجه اختبارًا مزدوجًا: أمام التزامات داخلية لإرضاء الشركاء، وأمام تحديات خارجية تؤثر على استقلال قراراتها.
وللمواطن العراقي توقعاته الخاصة. العديد منهم لم يصوّت فقط من أجل تغيير في السُلّم السياسي، بل من أجل حياة أفضل: مدارس، مستشفيات، فرص عمل، طرق. هذا التوقع يشكل ضغطًا حقيقياً على الحكومة المقبلة. إذا استمرت الخلافات الداخلية، أو لم تنجز الحكومة مشاريع ملموسة، فإن خيبة الأمل قد تستعر من جديد. أما إذا نجحت القيادة الجديدة في ترجمة وعد الإعمار إلى واقع مادي، فقد تكون هذه الانتخابات لحظة تحول تاريخية.
في نهاية المطاف، لم تعد الانتخابات مجرد تناوب في المقاعد البرلمانية. هي معركة حول ما إذا كان العراق قادرًا على كسر دائرة التفاوض الطائفي والمحاصصة، والتحوّل إلى دولة بناء وتنمية. نجاح السوداني وتحالفه في هذه المهمة لن يبني حكومة فحسب، بل قد يفتح الطريق أمام نموذج حكم جديد، يسعى إلى ترجمة الديمقراطية إلى إصلاح حقيقي، وإلى إنجاز ملموس يخدم العراقيين ويعيد لهم الأمل.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!