وبعد دورتين انتخابيتين شهدتا صعودًا لافتًا للوجوه المدنية، جاءت نتائج 2025 لتطيح بكل هذا التراكم، وتضع القوى المدنية خارج إطار التمثيل البرلماني بشكل كامل، ما دفع مراقبين للحديث عن موجة فقدان ثقة متراكمة داخل الجمهور المدني، مقابل أدوات سياسية ومالية ضخمة وظفتها الكتل النافذة.
وفي بغداد، سجّل تحالف البديل حضورًا محدودًا رغم حملته المباشرة واقترابه من جمهور المدن، إذ لم يتمكن من تجاوز العتبة الانتخابية بعد حصوله على نحو 12 ألف صوت فقط في العاصمة، ما وضعه خارج دائرة المنافسة البرلمانية، وفي واسط تكرر المشهد ذاته، حيث لم ينجح النائب السابق سجاد سالم -أحد أبرز ممثلي تشرين والتيار المدني خلال الدورة الماضية- في استعادة موقعه، مكتفيًا بنحو ثلاثة آلاف صوت لم ترتقِ إلى مستوى المنافسة تحت نظام “سانت ليغو” المعدّل، أما التحالف المدني الديمقراطي فقد حصل على نحو تسعة آلاف صوت فقط في بغداد.
مراجعات داخلية
وفي هذا السياق، يقول سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، إن “نتائج الانتخابات جاءت بعيدة عن التوقعات التي رافقت الحملة الميدانية، رغم ما لمسه الحزب من تفاعل إيجابي داخل الأحياء والأسواق والبيوت خلال لقاءاته المباشرة مع المواطنين، إذ بذلت كوادر الحزب جهدًا كبيرًا عبر طرق الأبواب، وتوزيع المنشورات، وتنظيم الحوارات والزيارات، الأمر الذي عكس صورة مشجعة عن حضور الحزب ونزاهة مرشحيه”.
ويضيف فهمي، أن “انحسار أصوات القوى المدنية والديمقراطية يعود بدرجة كبيرة إلى موجة العزوف الواسعة داخل جمهور المدن، وهي موجة ارتبطت بتنامي نفوذ المال السياسي، واستغلال موارد الدولة، وغياب تطبيق قانون الأحزاب تجاه الجهات التي تمتلك أجنحة مسلّحة، وهي عوامل أخلّت بميزان المنافسة ومنعت تحقيق بيئة انتخابية عادلة”.
ويوضح أن “القوى المدنية دخلت الانتخابات مشتتة في تحالفات متعددة، ولم تنجح في تشكيل قائمة موحدة قادرة على الصمود أمام الكتل الكبيرة، رغم سعي الحزب إلى توسيع دائرة التحالفات”.
وتكشف مراجعة نتائج الانتخابات في بغداد وواسط عن صورة أوضح لطبيعة الانكماش المدني؛ فالتحالفات المدنية لم تتمكن من تجاوز العتبة الانتخابية حتى في البيئات التي لطالما عُدت حاضنتها التقليدية، إذ تُظهر الأرقام أن التراجع لم يكن محصورًا بحجم الأصوات، بل بالتمايز السياسي الذي فقدته تلك القوى بعد سنوات من الاضطراب الداخلي، وتراجع الثقة العامة بقدرتها على التأثير في القرار.
صدمة التنقلات
كما أسهم انتقال عدد من الوجوه المدنية خلال الدورة الماضية إلى تحالفات أخرى في تعزيز قناعة شريحة واسعة من الناخبين بأن هذه التجارب لم تعد تعبّر عن مشروع تغيير واضح، الأمر الذي دفع جزءًا من جمهور المدن إلى المقاطعة، وجزءًا آخر إلى التصويت لقوى أكثر نفوذًا على الأرض.
من جهته، يرى الباحث السياسي علي ناصر، أن “انتقال بعض الأسماء التي برزت في ساحات الاحتجاج إلى التحالفات التقليدية، أو ترشّحها ضمن قوائم إسلامية وكبيرة، خلق حالة صدمة لدى الجمهور المدني، وأضعف الثقة التي تشكّلت خلال موجة الاحتجاج”، موضحاً أن “هذا التحوّل دفع شريحة واسعة من الناخبين إلى التخلي عن دعمهم القديم، ما أدى إلى تفتيت الأصوات داخل البيئات المدنية نفسها”.
ويوضح ناصر، أن “التشتت الذي أصاب القوى المدنية، وعدم قدرتها على بناء رؤية موحدة، جعل صورتها أقل تأثيرًا في انتخابات 2025، خصوصًا مع دخول الأحزاب الكبيرة بآليات عمل راسخة وتمويل واسع، مقابل إمكانات محدودة لدى القوائم المدنية، كما أن قيادات تقليدية داخل بعض الأحزاب المدنية بقيت متمسكة بإدارة المشهد، دون فسح المجال أمام طاقات جديدة، الأمر الذي زاد من فجوة التواصل بينها وبين جمهور الشباب”.
ويلفت إلى أن “غياب الأذرع التنظيمية والركائز الميدانية جعل القوى المدنية غير قادرة على مجاراة الحملات القوية التي تمتلكها الكتل التقليدية، سواء في التعبئة الاجتماعية أو في إدارة الموارد”.
وحصل أقطاب تحالف البديل، على أصوات محدودة، حيث حاز رئيس التحالف في بغداد رائد فهمي على 3364 صوتاً، فيما حاز عدنان الزرفي رئيس التحالف في النجف على أكثر من 3 آلاف صوت، والحال نفسه بالنسبة للنائب السابق سجاد سالم الذي حصد أكثر من ثلاثة آلاف صوت، أما رئيس التحالف في ذي قار حسين الغرابي فقد حصل على 1989 صوتاً.
توحش "سانت ليغو"
وأدّت التحولات التي رافقت تعديل قانون الانتخابات بصيغة “سانت ليغو” إلى تضييق هوامش الحركة أمام القوائم الصغيرة، بحسب مراقبين، وهو ما جعل أي كتلة مدنية بحاجة إلى رصيد انتخابي كبير ومنظم كي تستطيع الدخول في المنافسة، ومع التشتت الذي ظهر في القوائم المدنية، وغياب التحالفات الجامعة، تفرّقت الأصوات بين عدة قوائم لم تستطع أي منها بلوغ الحدّ المطلوب للحصول على مقعد نيابي واحد.
ورأى مراقبون، أن تزامن ذلك مع حضور كثيف للمال السياسي في معظم الدوائر، أسس لبيئة انتخابية رجّحت كفّة القوى التقليدية، ودفعت التيار المدني إلى موقع أضعف من دورات سابقة، بالرغم من الخطاب الاحتجاجي الذي حمل جزءًا من رموزه إلى الواجهة في 2018 و2021.
من جهته، يجد أستاذ الإعلام والباحث السياسي غالب الدعمي، أن “خسارة القوى المدنية والتشرينية لم تكن مفاجئة، بل جاءت نتيجة تراكمات بدأت منذ الدورة الماضية، حين أخفقت تلك القوى في الحفاظ على الزخم الشعبي الذي اكتسبته من ساحات الاحتجاج، إذ شعر جزء من جمهور تشرين أن ممثليه لم يقدّموا الأداء المتوقع داخل البرلمان، ما خلق فجوة مبكرة بين الناخبين والوجوه التي صعدت بدعم الاحتجاج”.
ويضيف الدعمي، أن “القوى التقليدية استطاعت تطويق التجربة المدنية من خلال شبكات نفوذ واسعة وقدرات تنظيمية كبيرة، في مقابل ضعف الخبرة الانتخابية لدى القوائم المدنية التي دخلت السباق منقسمة، وبخطاب غير موحد، ومرشحين بلا حضور اجتماعي واضح في بعض الدوائر”.
ويؤكد الدعمي، أن “ضعف التنظيم، وغياب التحشيد الحقيقي، وسوء اختيار بعض المرشحين، كلها عوامل أسهمت في انهيار المشروع المدني داخل صناديق الاقتراع، خصوصًا مع قدرة القوى التقليدية على استخدام أدواتها السياسية والإعلامية والاجتماعية في تعبئة جمهورها طوال سنوات”.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!